الخميس، 19 ديسمبر 2019

اضطراب وروح مهشمة

يقول لي أحبك! 
كيف تحبني؟ بكل هذا الاضطراب؟ كيف تحب امرأة بنصف عقل وقلب مهشم؟ كيف تحب امرأة بكل هذا القدر من الإنزعاج والتوجس والتوتر والخيفة والقلق، امرأة تفزع من نومها فتجلس فجأة بلا سابق إنذار، تتقلب مثل حجر صغير يدفعه السيل للانحدار، تشهق فجأة، ويضيق صدرها فجأة، ولا تعرف هل العيب في صدرها الذي يضيق أو أن الهواء صار معبأً بغير الأنفاس!

أرسلت له أغنية "يونس" لمحمد منير .... وكتبت .... وانت تقولي بحبِك تحب إيه فيا؟

كما أنتِ أحبك، لماذا لا أرى أمامي سوى فاتنة؟ ذكية؟ ورصينة؟ أين تلك المضطربة حتى أقتنص منها قبلة ولا تقف أمامي مثل السجان!
أضحك!
أعرف أني أضعت قدسية الحب مرة، وأني لا أستحق كل هذا العناء، أخبره بهذا فيغضب، في كل مرة يثور في وجهي، لا أعرف لماذا في كل مرة يثور في وجهي، يقول أني امرأة مثالية، أعيش في عالم أفلاطوني لا أقبل فيه أخطاء البشر، يسألني لماذا في كل مرة يصارحني بخطإ قام به وجلد نفسه أمامي أنه بشر وليس إله، لماذا أفترض في نفسي أني إله، لا يمكن أن يخطيء، رغم أني في عينيه مازلت جنية ولست من البشر، أخبرني يومًا أني ملاكه، لكني كرهت الكلمة، انقبض قلبي، وانقبضت كل عضلات جسمي فانكمشت قليلًا، تساءل! أخبرته أن هناك شبح أخبرني يومًا أني ملاكه، وتبخر! سحب روحي من أعماقها، وجرها من الفردوس الطاهر، وألقى بها في ظلمات لا أعرف أولها من أخرها، وكأني سجينة الوحل!
يثور في وجهي! 
لماذا لا يبتسم لي فحسب إذ أخبره قصتي الملطخة بالغباء؟
يجزّ أسنانه بتصبّر، يتوعدني أن أعيد الكلام عن نفسي بتلك الصيغة، يذكرني بكلمتي المقدسة " أنت لست إلهًا يا عزيزي، تمهل" يقلد صوتي إذ أنصحه، يسخر من هدوءي وأنا أخفف روعه، يتقد الشرر في عينيه إذ أغفر له وأقبله ولا أغفر لنفسي حماقاتي!

يتمنى أن يعرف من شوه روحي هكذا، يتمنى أن يرى صورة عابرة، أخطأت في يوم ولفظت الاسم! 
ضحك، قال لي أرأيتِ؟ ليس الخداع لهاتين العينين!
أنزعج ....... ألملم أشيائي وأعتذر منه كي أمضي.
ينهض برجولة وعنفوان، هل هذا لأنه أطول مني كثيرًا؟ الجميع أطول مني!
يقترب كأنه يساعدني ...... "إذا ضممتك الآن سيقولون فعلٌ فاضح!" ألتفت إليه وأبتسم!

أود لو يضمني، أكره أن يلمسني!

ما زال يزعجني أنه يريد الغوص في الأعماق ....

ماذا تريد من امرأة لا تنام؟ تتوجس من الأغراب، وتكره المعارف، ولا تثق بأصابع يدها، وتريد أن تضم العالم في سلام، كل في آن واحد!
امرأة لا تلق السلام على غريب، لكنها تضم امرأة طيبة في المجمع التجاري، تتبادل البسمات والنكات مع امرأة بسيطة من جنسية على أطراف العالم، بلغة ركيكة لكنها تفهمها، تهديها قطعة حلوى فتسعد، تلوح لها من بعيد كأنها صديقة مقربة، وتعود إليه كأن شيئًا لم يحدث!
تقول له أنها لا تحب العالم كثيرًا، وأنها لا تحب الحياة، وفي كل مرة يشعر فيها بخيبة أمل يجري إليها كي يستمد منها الحياة!
يخبرها أنه لا يحب الأطفال كثيرًا لكن إن كانت ستتفرغ لهم وتعطيهم كل هذا الحب الذي يراه في عينيها لتلاميذها سوف ينجب منها نصف دستة على الأقل .... تضحك ... ينظر في عينيها ويقول أنه جاد .... تضطرب!

ماذا تريد من امرأة لم تعد تعرف الحب؟ لم تعد تعرف أيهم حقيقي وأيهم مزيف!

في نقاش كانت المرأة داخلي فيه خائفة أكثر من اللازم، أو لربما هذا هو اللازم فقط وأقل، أخبرته أنها تشعر بالغباء، كيف لها أن تبن علاقة طويلة على كل هذا العبث، يوم أعطت كل قلبها لوغد! قالت له كيف تثق بالعالم بعدما انقطعت آخر شعرات الثقة .... كان الوغد آخر شعرات الثقة!
لقد تعب من المقارنة، أنهكه حكمي المسبق على الحياة بنهايتها وعلى الحب بالفشل ...... قال لي ماذا يمكن أن أقدم كي لا أكون وغدًا؟
قلت له الأبد!
هل تضمن لي الأبد؟
سكت!
قلت له: ولا أنا أضمنه! هل أدركت كم أنا مشوهة!

في كل مرة يدور النقاش وأنا خارجه وداخله ...
امرأة بنصف عقل وقلب مهشم وروح هاربة!

في هذا النقاش سألني إن كان علينا أن نعود للمنزل، كان يقلني إلى منزلي، كان يلملم أغراضه في إشارة إليّ كي أنهض أيضًا .... 

كم مرة علي أن أعود لحضنه باكية كي يغفر لي كل هذا العبث؟
ورغم ذلك لم أفعلها!

في الصباح التالي يرسل لي كلمة واحدة " أحبك" 

لماذا لا أكون امرأة طبيعية مرة واحدة وأقول له أيضا أني أحبه؟ وأني أشعر بالسكينة حقًا وهو بجانبي، وأني لا أستطيع أن أقترب أكثر لآني خائفة؟ وأني لا أستطيع أن أبتعد بشجاعة لأني وحيدة؟ ومتى تنتهي الوحدة؟ ومتى يستقر الحب في قلبي؟

أبتلع رسالته، ويبتلع صمتي .... أسأله بعد ساعات طوال "لماذا؟"

يخبرني بكم القصص الذي يحمله لي، بأنه من أول يوم كان يود لو نتكلم، بأنه عاملني بتجاهل شديد لأنه شعر بأسرٍ تجاهي، يقول: كلما أردت أن أبتعد عن غرورك وجدت بسمة رقيقة على شفتيكِ تدفعني للجنون، جمعت المعلومات، وراقبت كل زياراتك، كنت أتصرف كالمهووس، حتى نصحني صديقي أن أكلمك مباشرة، كنت أظنك سخيفة، ومتحذلقة، كنت أرى صلابة وغرورًا، وفجأة ينكسر كل شيء ببسمتك الرقيقة لتلك السيدة .... لم أعرف أني وقعت في مصيدة عينيك سوى في يوم تعالت ضحكاتك مع زميلي، كنت أشتعل بالداخل، لا أعرف لماذا أشتعل، لكني كنت أشتعل ...
قاطعته: يوم أن عاملتني بعجرفة شديدة؟ وبت أسألك لشهور بعدها ماذا حدث؟
نعم! يومها كنت أضحك بغرابة مع الجميع، وأسفه كلامك، حتى غضبت وانسحبت، عندما ذهبت من المكان فقط أدركت قدر حماقتي، قال لي صديقي أن أمري كان مفضوحًا جدًا، يوم عاتبتني بعدها برقة وهدوء، تمنيت لو أن قطارا يدهسني حالا أو أختفي من أمامك، يومها أدركت أني وجدتك، وكأنك ضالتي المنشودة، كل شيء فيك بات يسحرني، وكأنك راقص يعرف كيف يمسك خيوط الماريونيت، تبتسمين وقت الغيوم كي تشرق الشمس من جديد، تواسين وتبكين بصدق، تكونين صلبة إذا استدعى الأمر، ولا تتحامقين كالأخريات، أنت حمقاء أحيانًا ..
ضحكتُ ... فأرسل لي قبلة ... 
أقول له: مر بي اليوم ... دعنا نتكلم!
يهاتفني كي يقول لي ثانية ... "أحبكِ"!
من قال لك أني أريد أن أُدخلك سجني!

ينتظرني بصبر في كل مرة، أقول له أعطني مزيدًا من الوقت للتبرج، يتساءل لماذا التبرج وهو لا يمانع خروجي إليه بمنامتي!
أضحك

أختار عطريي بعناية .... هو يحب اختياراتي للعطور ... أنوي أن يمر الليل بلا شجار ديوك!

تزوجيني!
لا
لماذا
لن تحتمل براكيني
لماذا 
هكذا
جربيني
سأخسر
سأعوضك
لن تدرك حجم خسارتي
ثقي بي
أنا أثق بك 
وأنا أحبك
ولكني لا أثق بنفسي
أمسكي يدي سوف أحملك
يدي مرتعشة
باللهِ .... لماذا تقتلينني في كل مرة!
آسفة
لا يا حبيبتي .. أنا آسف ... وعدتك ألا أجبرك!
صدقًا آسفة!
تحبينني؟
أرتاح معك
تحبينني؟
أحب وجودك
وأنا؟
أنت جميل
حقًا؟
آه والله
تغارين؟
كثيرًا
الغيرة علامة الحب ... تحبينني!
نعم
ماذا؟
:)
حسنًا ... تزوجيني 
اسكت
تزوجيني وسأسكت للأبد رهن إشارتك!
وهل سأكلم نفسي حينها؟
سأتكلم بإذنك
لماذا؟
ماذا؟
لماذا كل هذا؟ أقصد ما تفعله
لأني أحبك
لماذا؟
لا أحد مثلك 
أنا مليئة بالوحل
لا أحد يرى الوحل غيرك ... أن أرى ملاكًا، عفوا لست ملاكًا، أنا أرى جنية طيبة، تحقق الأمنيات، وتسعد الناس، تكون سانتا كلوز العيد، في كل عيد، وكل يوم معك يكون عيدًا، هل رأيت بسمتك للسيدة في المجمع التجاري؟ هل رأيتك ضمتك للمرأة الباكية؟ هل رأيت نظرة الأطفال لك؟ هل سمعت صوت ابنة قريبتك وهي تنطق اسمك؟ هل رأيت سعادة أمي أني أختارك؟ هل رأيت نظرة والديك لك وكلامهم بفخر عنك كأنه لا أحد عنده ابنة إلا هما؟ هل سمعت ما تقوله زميلتك في العمل؟ صديقتك؟ تلك السيدة التي تمر بك كل يوم؟ تلاميذك؟ قطط الشارع صارت تحبك، وأنت؟ لماذا لا تحبين نفسك معنا؟
أبكي
أرجوكِ ... أرجوكِ...
أبكي أكثر

يقترب مني، يقول لي هل هذه بلاد حرة بما يكفي لأحضنك؟
لأول مرة أضع وجهي في صدره وأبكي .... أبكي بجنون ... بصوت .... بقهر .... كأني لم أكن أعرفني وهو يعرفني
من بين دموعي " أنا خائفة"
لا تخافي
كنت خائفة منك الآن خائفة عليك
مم؟
مني
منكِ؟
أبكي
كفاكِ حمقًا .... حبيبتي ... أنت غبية بما يكفي لتحميني من نفسي ومن نفسك .... عندما أردت الانتقام من الوغد حاولت قتل نفسك لا قتله .... أنت عصفورة حمقاء لا تقلقي 
وكيف أثق بك؟
لأني أحمق آخر يريد أن يكمل دائرة الغباء ويشاركك اللعنة!
أضحك
يضمني أكثر
أحبكَ
يبعد رأسي عن صدره .... يبتسم وتتسع عيناه ... "تتزوجينني؟"
لا! حسنًا ليس الآن 

يرضى بهذا الآن .... يعتبره انتصارًا .... يمدح عطري .... يقلني لبيتي ويطير فرحًا يحلم بترتيبات كثيرة كأن الزفاف غدًا
وأنا؟

امرأة بنصف وعي وقلب مهشم وروح هاربة .... وشعاع نور يخرج من بين الحطام يشبه بسمته!

الأربعاء، 27 نوفمبر 2019

النظرات المحتارة

ما بين أن يلقي السلام عليها إذ التقت أعينهما وبين أن يتجاهلها مثلما تفعل دائمًا، نظرة حائرة اعتلت وجهه، لمحتها سريعًا وهي تتظاهر بالانشغال بشيء في يدها، خطوات واثقة لتعبر بجانبه، بابتسامة واثقة وعريضة وطيبة حيته، ما الذي تفعله البسمات بقلوبنا ووجوهنا إذا جاءت من حيث نريد؟ ماذا تفعل انقباضة القلب بكل هذا الجبروت والقوة إذا جاءتها التحية كرياح عاصفة تهدم كل تلك الأسوار وتصرف هذا الجيش من الجنود الحارسة لقلوبنا كي لا نقع في شباك الرقة؟ بابتسامة عريضة تنفرج شفتيه، تتجعد الخطوط حول عينيه، بعد ثبات خطواته يضطرب، بعد قدرته على النظرة المتحدية في عينيها تنصرف عيونه إلى اللاشيء، تبتسم وتكمل في ثبات، وكأنها إعصار يمر فوق القرى ولا يبالي بما احترق بها، بخطواتها التي تدب الأرض بلا اهتمام، كأنها فراشة لا تستطيع الثبات على زهرة، أو العصفور لا يقدر على الوقوف ثوانٍ أطول، تكمل طريقها، ويتعثر هو في خطوات نفسه، كأن شيئًا يكبل قدميه ويسحبه للوراء، لا يحب النساء الواثقات هكذا، يخاف منهن، يتسلح بالصرامة كي لا يصبح لعبتهن، إلا هذه، أمامها يقف كعصفور بلله القطر، يبتسم ولا يبالي أي ثنايا قد تنكشف إذ يمنحها كل ثغره في التبسم، تضيق عينيه ولا يبالي إن لم يرَ أي شيءٍ بعدها إلا هي، ينخفض صوته، تصيبه بحة عجيبة، وناعمة، يصبح مثل وردة بلا شوك، وعندما يفيق من تلك العاصفة يتذكر دروعه، يتذكر صف الضباط الذين يجندهم، يتذكر  درع صرامته أين هو فيتذكر أنه يتفتت أمام نعومة بسمتها، يتذكر تلك الكلمات التي يرددها بداخله كتعويذة إذا رآها مقبلة، لن أبتسم لها، لن أحييها، سوف أعبر بجانبها دون أن أطرف، أو أهمس، أنا منشغل، أنا حقًا منشغل، هذا المشروع الذي أعمل عليه، يجب أن أكلم رئيسه في ..... صباح النور! يا إلهي كم هي محيرة، تلك الأوراق التي خبأ نفسه ورآها لينشغل عنها تبعثرت تحت حذاءها، يا إلهي، كم هي ساحرة! ثم ما الذي يسحر فيها؟ امرأة ... مجرد امرأة بلا شيء مختلف، لا تترنح بمشيتها ولكن عطرها ... عطرها يصيبني في مقتل كل مرة، هل كانت متعطرة اليوم؟ لا أذكر لأن نظرتها بعثرت أمري إلى شتات بعيد!
كيف تصبح النساء بارعات في التخفي مثل الزواحف تمامًا، على نحو جيد، تتكيف مع الصحراء والزهور، تتكيف مع أوراق الأشجار وجذوعها ولحاءها، تتكيف مع البحر والرمل وتلتحفهم، وتتكيف مع الصخور وتجد وسادة فيهم!
كيف لها أن تخبيء كل هذا الخوف، وكل هذا الضعف والهشاشة بين جنباتها وتسير، لا تكشف سرها إلا إذا اطمأنت وهدأت وارتاح قلبها لصدر من تلقي عليه مخاوفها، وكيف تصبح أكثر صلابة إذا لم تجد هذا الأمن؟
وكيف تصبح وحشًا كاسرًا إذا إذا خانها الأمن!
كيف يتبدد حزن الرجل ببسمة عابرة من أي امرأة، وكيف لا تزول سحائبها سوى من ابتسامة نفسها لنفسها!
المرأة حصن، وحضن، وعاصفة، ونهر، وجنة، وأميرة، وملكة، وثورة، وفراشة، وعصفور، وزهرة، وساحرة، ودجالة، وسيدة، وجارية، وكل شيء وأي شيء وكل الخيارات مفتوحة أمامك كيف أنت لها ومنها وبها وعندها؟

هو شاعر .... هو كاتب .... هو رقيق الطبع، هو يبحث بفضول الراوي عن سرّها، لا سرّ بها، كيف يكون بتلك الشفافة سرّ؟
وهذا ما يحيره كثيرًا!

الأربعاء، 20 نوفمبر 2019

تلك البدايات الناعمة ......

كان يسير بحذر إلى مكان مهمته، مجهولة تلك المهمة بقدر معلوماته عنها، يبين الشيء للوهلة الأولى كأنه واضح ومحدد، ليست كل الرسومات ببساطة خطوطها العريضة، عندما يكون للأمر صلة بالبشر صدقني فهو أكثر تعقيدًا وأشد سهولة في ذات الوقت!
كانت تقف هناك، تطوعت لدقيقة واحدة ان تمنع كارثة حتى يأتي المكلف بتلك المهمة لاستلامها، كجندي محترف وقفت بصرامة توجه هذا وتأمر ذاك، بعينين واسعتين واثقتين وقفت، بعينيها البنيتين بخطوط دخانية من رواسب أسود تبرجها السابق وقفت، بكنزة بيضاء وشال منقوش بورود زرقاء وقفت، ببسمة تلقت وجوده، سألها بتوجس إن كانت المهمة مسندة إليها، قالت لا، بقليل من الحزم  دعته لاستلام مكانه والقيام بدوره، وانسحب للجهة المقابلة!

أي لون عين قد ضرب حجرًا في مياه الآخر الراكدة؟ عينيه الناعستين بلونها الزرعي الفاتح المريح، أم عينيها العميقتين اللتين تأخذانه إلى حيث تفقد الجاذبية الأرضية تأثيرها على قدميه فيسقط!

موظف جديد وهاديء، يظهر عليه الالتزام، لا تراه يتحدث بصوت عالٍ، على رقة ملامحه ودقة جسده إلا أن لديه خطوة رصينة، يسير كاللامبالي بالحياة، ملامحه رقيقة لكنها توحي بالحزم، ولا يمزح مثل بقية فريقه، وهي، امرأة ثابتة واثقة الخطوة، تقابله فلا تلقي سلامًا ولا تبسمها، عينيها صارمتين معظم الوقت، لماذا اهتزت الأرض تحت قدميه عندما وقف أمامها وجها لوجه واختفى صوته وبح!

من نافذة صغيرة تستطيع أن ترى ما وراء الباب، لديه نافذة مقابلة أيضًا، تقول لنفسها هل رقته تستقيم مع ما يقابل؟ رغم رقتها الظاهرة رغمًا عنها فهي تلقب نفسها بمصاصة الدماء، تقول جذلة إنها تبتلع من يضايقها إذا قررت هذا، وهو؟ تراه رقيق البنية، هاديء الطبع، راقي الأخلاق، هل يبتلع من يضايقه مثلها؟
تتلصص النظرة، وتسترق السمع، المحيط هاديء، صوت رجولي يعلو، لا تدري على هذا صوته أم صوت المشرف، هل المشرف بالخارج؟ لم تلاحظه، هدأ الصوت، وبدأ هو بخطوات بسيطة للأمام والخلف يظهر من نافذتها ويختفي، بعينيها الواسعتين ترقبه، يستقيم شعاع نظرها إليها، في حين يلتفت، تطيل النظر، تعرف في قرارة نفسها أنها ثابتة الأقدام، وأنه سيضطرب، اضطرب، أشاح بنظره في جهة أخرى ثم عاد ينظر لعلها خجلت، لكنها كانت ثابتة النظرة، وكأنها أمسكت به متلبسًا، تحركت خطوتين، وتحرك هو خطوات، كان يدور في الموقع المحدد لعمله، يراقب هذا ويتابع هذا، مهمتها أسهل لديها فرصة أكبر كي تراقبه، لكنه متلهف أن يسترق نظرة أو نظرتين على تلك المخلوقة الغريبة جدًا، التي ابتسمت له لأول مرة وكان صوتها يهز الجدران قبلها بثوانٍ قليلة!
يدور ويرجع، ينظر ويتمنى أن تنظر وألا تنظر، أسئلة تدور برأسه لكنه محتاج إلى التركيز لإنهاء مهمتة، تنهي عملها وتختفي، عليه أن يبقى لدقيقتين في موقعه بعد انصرافها، لماذا لم تتوقف فتسأله كيف كانت مهمته؟ سأل نفسه محتارًا يشعر بالخيبة!

هذا الاضطراب عندما يضبطنا أحدهم نتلصص عليه، تلك البسمات اللا شعورية، تلك الإشارات التي تنبعث بهدوء ولطف، تلك النعومة التي تتسلل إلى قلوبنا، تستمر لدقائق، لساعات، لأيام، لأكثر أو أقل، يتجدد شعورها كل حين، عندما تنظر لمفازتك من تلك الحياة بقرب حبيبك، حين تنظر فجأة فتكون النظرة متبادلة ...... وناعمة

الأحد، 6 أكتوبر 2019

عيد ميلاد بالغربة!!

اليوم زارت أمي صديقتي الصدوقة وزوجها وطفليها، أخذت الحب والمودة والصداقة وذهبت بهم إلى باب بيتنا، راسلني زوجها، تريدين شيئا من بيتكم؟ وأرسل لي صورته مع أبي!

تقول لي: عيد ميلاد سعيد ... إنت صحيح مش موجودة بس كان لازم نيجي ....

لماذا تأتي كل الدموع فجأة وكل الشوق فجأة وكل الحنين فجأة؟ لا أرى صديقتي لشهور طويلة، نعقد العزم على اللقاء ولا نلتقي، لن يلومها أحد، لماذا تذهب إلى بيت ليس فيه صديقتها؟ المحبة!

منذ عامين ..... يا إلهي عامين .... صرخت بوجهك من كل قلبي، أن تأخرت علي في تهنئة أنتظرها من العام للعام، تأخرت دقيقة أو دقيقتين، تأخرت ثواني، تأخرت لحظة وطرفة عين ناعسة، ولكن قلبي كان يقف على أطراف أصابعه، كنت أنتظرك، لشهور قبلها كنت أنتظرك، أدفع الأيام ببعضها ليأتي اليوم فقط، لتأتيني رسالتك فقط، أرتجف لأسبوع كامل، أرتجف بقوة ويختلج قلبي بكل شيء! بالخوف والترقب والشوق والحب والحزن والفرح والأمل واليأس وكل شيء، تضطرب معدتي، لأسبوع لا أنام، حرفيًّا لا أنام، ولا أكل، ولا أجوع، ولا أشبع ولا أهدأ، أقوم فزعة، أنظر لهاتفي، للتاريخ، للساعة التي أريدها أن تجري، للوقت الذي أدفعه ثقيلًا كي يمر ....... هل كان قلبك يدرك شوق قلبي؟ هل كان قلبك يفهم لوعة قلبي إذ تمر ثانية زيادة عن الوقت الذي مازلت أدفعه بكل طاقتي وأخيرًا أخيرًا منه انتهيت؟ لا أطيق لحظة واحدة، لا أحتمل ثانية واحدة ...
انفجر بركاني في وجهك، أنا غاضبة، غاضبة من الثانية، غاضبة من الوقت، غاضبة من البعد، غاضبة من صوتك الذي خاصمني وجفاني، غاضبة منك إذ تحجب قلبك عني، غاضبة منك إذ أنتظرك ولا تبالي، إذ أدفع الوقت إليك وأنت تنتظره بهدوء، اعتذرتَ وقتها، قلت لي أنك كنت تسهر خصيصًا كي ترسل تلك الرسالة لي، لكني كنت قد كسرت ... كانت رسالتك قشة الغريق، أتت بعدما دخل الماء في أنفي وفمي وقلبي، بعدما ثار بركان أمسكه لشهور، بركان أمنعه أن يأتيك وجهًا لوجهٍ، أن يصفعك، أن يلكمك، أن يذيقك مرّ اللقاء مثلما تذيقني أنت مر البعد، كلاهما بلا وصل مرّ .... اعتذرت، حاولت أن تمزح، وأنا؟ ألملم هذا البركان، أريد أن أكلمك، كنت قد رسمت آلاف القصص كي أحكيها، كنت قد تدربت على قولها آلاف المرات، كنت أكوم الحكايا أرصها فوق أرفف قلبي، كنت أحكيها لك كل يوم، ثم أعيد ترتيبها، ماذا أخبرك أولًا؟ ثم يأتيني هاجس، ترى هل سوف يذكرك؟ تراه يرسل لك أي مفتاح للحديث؟ تتبعثر كل حكاياتي على الأرض، يأتيني أمل خفيت بقلبي أنك تراسلني، ألملم في صبر أيوب وتسلية أم موسى آمالي المبعثرة، أسند الأمل بأنك لم تنس يومًا عيد ميلادي، بأنه مهما كان بيننا من خصام أو بعد لن تنساني، أرصهم مرة ثانية، موجة تضرب قلبي في أحد الصباحات بالشوق العارم، ينتعش الأمل ونعيد ترتيب الحكايا، هل أرتبها حسب الأهمية؟ حسب الطول والقصر؟ حسب مشاعرها؟ هل أنتقي الحكايا الطريفة أولا؟ أنت تحب الضحك، سوف أخبرك بإحدى حماقاتي والتي كانت تضحك، سوف أقول لك عندك حق، سوف أخبرك عن سياقتي كامرأة، سوف تسخر من سياقة المرأة، سوف أتددلل عليك كالعادة وأسألك وأنا؟ ماذا تظن في؟ سوف ترد ردًا مراوغًا، سوف تسخر أولًا ثم تراضيني رضاء مبطنًا، سوف تخشى أن تقول أي شيء يعطيني الأمل بالاجتماع مرة أخرى، ويعطيني مظنة اللقاء، لكني سأرضى، سأكتفي بضحكتك، سأكتفي بأن أطلب منك سماع صوتك، لن تردني، هذا عيد ميلادي، سوف أسمعه وأنام، آآه سأنام، أخيرًا سأنام .... كيف صار صوتك؟ ضحكتك؟ هل سوف تطربني مثلما اعتدتها منك؟ أم سوف تكون عصبية مثل المرة قبل السابقة؟ ستكون مرتاحة ... أفيق على يوم جديد في العمل، وعلى ليل أدفعه بثقل، وأنا أكلمك وأرسم كل الحكايا على جدران قلبي وكأن العقارب لا تسير وكأن الوقت لا يمر! ثم تأتيني رسالتك متأخرة  .....

قلبك؟ كان مثقلًا بكل هم، قلبك كان متعبًا، لكني كنت غارقة .... أشعر بك ولا أراك .... أود أن أضمك وأود أن أصرخ كفى وأضربك، أكرهك وأتمنى أن أقتل نفسي أمامك حتى تموت كمدًا، وأفزع في الليل إذا راودني شعور أنك لست بخير، كيف صنعت بي كل هذا الاضطراب؟ كيف جعلتني أنا وجعلتني كل شيء إلا أنا في ذات الوقت!! 
الآن لا أدري من الذي أفسد انتظار الآخر؟ الآن لا أدري من الذي أثقل الآخر فوق ثقله، ومن الذي طعن الآخر بصدره!
هل تعرف كم مرة هرعت إلى الحمام بمغص شديد؟ وأنا أكتب لك ردودي السخيفة؟ هل تعرف أني كنت أبكي؟ لو أني أملك جرأة أن أخبرك كل شيء دفعة واحدة وأموت؟ لو أنني أملك أن آتي إليك وأجرك جرًّا إلى حيث نرتاح ... إلى البراح الذي نلتقي فيه فتهدأ أنفسنا قليلا .... لو أنك لا تغضب إذ أخطو إليك .. إذ أقترب خطوة .... هل أخبرك شيئًا؟ كان قلبك يريدني أن أقترب ... كان خائفًا ووحيدًا ... كان عقلك يؤثر السلامة ... كان ينغمس في الوحدة والحزن كي يلقى سبيلًا للاعتذار المنمق!

الليلة .... يا حبيبي ..... نعم أنت حبيبي .... لا أعترف بها لنفسي .... لكني أعترف بها لك .... مرت الساعة منتصف الليل، لكنها عندك مازالت قبل المنتصف بقليل، لكنها عندي تسبقك قليلًا أو توازيك ربما؟ أعتقد تسبقك، تسبقك بساعة أو ربما أربعون دقيقة، لا أعرف، قررت ألا أعرف مسبقًا، قررت ألا أقحم أنفي الطويل عندك ... لعلي!

الليلة، مثل كل ليلة عيد ميلاد، أنتظر رسالة منك، لكني اللية أعرف أنك لن ترسلها، أتمناها وأعرف أني لن أحصل عليها، هل أقف بالعراء وأقول للكون أني أستحق رسالة منك وقلبًا؟ وأنه لم يحبك أحد مثلما أحببتك؟ وأن عينيك لم تلمع لأحد مثلما لمعت لي؟ هل يعرف الكون عنّا؟ أو يعرف الكون عني؟

هل يعرف الكون أني مازلت أتعركل بذكراك وأنت تتأسف على امرأة مرت بحياتك ورحلت؟ ترى من هي؟ هل يدرك الكون أني أقرأ كلماتك كطعن الخناجر .... كل الاحتمالات تقتلني ...... لو لي نصيب من الغمامة التي تعبر العالم كي تلمسك، أو لي نصيب من البسمة التي رأيتها أنت عذبة؟ هل بسمتي عذبة وروحي بهذا النقاء؟ هل أحببتني بهذا القدر المجنون الذي أحببتك به؟ هل ألقيت نفسك في الحب تجاهي؟ مثلما ألقيت بكلّي إليك؟ 

لو أنك تعرف؟ لو أنك هنا؟ لو أنك صدقتني؟ لو أن عندك نفسًا واحدًا أطول قليلًا؟ لو أنك تخبرني أن حبيبتك هي أنا؟ لو تقف معي بنفس الجبهة أو تفتح لي الباب إليك! 

مرت الساعة ولم تصلني رسالتك ... ولم تصلني أي إشارة أنك تذكرني ... سوى قلبي الذي .... يصرعه الأمل ... 

السبت، 28 سبتمبر 2019

في الغربة

أكملت شهرًا كاملًا في الغربة، في شقة صغيرة لكنها تكفيني، سريري مرتب لكنه ليس دافئا مثل سريري، كنت أظن أني تركت الكوابيس خلفي، لكنها هنا لا تأتي في صورة أحلام تقض مضجعي، هنا تسحب النوم في هدوء من عينيك مثل لص محترف!

كنت وحيدة قبل سفري، كنت أعرف كم أنا وحدي، كان صوت أمي فقط في الفراغ، رغم نزاعاتنا المستمرة لكني أعرف أنها تحبني، على الأقل لا تكرهني، في حياة البالغين القاسية لا أستفيد كثيرًا من كلام أمي، أمي طيبة لا تعرف هذا الوجه القاسي من العالم، كنت أسندها بقوة عندما تكشفت لها أنياب الحياة في شهورها الأخيرة بالعمل قبل التقاعد، وعندما سقطت أقنعة بعض المحببين لها، كانت تصدم لكني كنت أرى المشهد من بعيد، أحضنها وأقول لها لا بأس، تقول لي أنها كانت مغفلة، أنها تشعر بالغباء لأنها لم تر هذا مسبقًا، أخفف عليها، أقول لها تصدر قلبك المشهد، تعاملت بطيبتك وأصلك الكريم، أهديء من رعونة شبابي التي كانت تضعها سابقًا أمام الحقائق وتقول لها أنتي تغمضين عينك وتستعمين!

في ليلة محددة، تدرك أن العالم سقط فجأة، أن كل أمل في قيامه اضمحل، نكزات المقاومة الأخيرة لضحية مذبوحة تهدأ، تكف عن خبط الأرض بقدمك، تتكور بهدور في ركن مظلم وبادر، تحضن نفسك وتبكي بخزي وهزيمة، تستسلم غير مصدق لما يحدث، لكنك تستسلم، ليس خيارًا، في ليلة رحيلك، في قولك أن البعد حل، أن كل شيء ينتهي هنا، أن فصلًا جديدًا في الحياة يجب أن يبدأ!

كنت أعرف أني وحيدة منذ قرأت في صوتك التخلي، وفي خطواتك البعد، لكني كنت أتسلى بأمل عندما قتلته لم أجد ما أتسلى به سوى مزيد من الألم، أو الانفصال عنه!
كنت غريبة، كنت أنت من يربطني بهذا العالم، أريح رأسي المتعب بالأفكار على صدرك، تريح ذقنك الحاني على رأسي وتبتسم، كنت أعرف أنك تبتسم، كنت تهدأ، كنتُ أهدأ، كنا نأخذ إجازة لحظية من العالم قبل أن يبدأ الصخب من جديد.

كل يوم أقاوم خوفي، المجهول، الطرق الطويلة، السرعة الزائدة، السباحة، البحر، الملح، الغرق، المرض، الألم، الأماكن المرتفعة، التحدث للغرباء، الابتسامة لعابر، أو الجلوس بالقرب من أحد ليس أنت!

بقوة جمعت ما أحتاج، حملت معي المانجو، كأني أحمل رائحة البيت، أفتح البراد فأشم رائحته، أنتشي، أتذكر أمي، أتذكر بيتنا الصغير الذي تسري فيه ضحكات بسيطة لطرفة قالها والدي، أتخلى عن هلعي أن يصيبهم مكروه بغربتي، أصلي كثيرًا، أقدم طلب الوظيفة مرة، يرفضون، لا أقاوم، لا أعيد الطلب، أقول بشكل روتيني إذا جدت فرصة أعلموني، تجد الفرصة، يعلموني، يطلبون المزيد من الأوراق، يقبلون بي، يدب الخوف في قلبي، هل هذا ما أريد؟
لشهور كنت أكمل رحلة بحثي عن دراسة في آخر العالم، قريب من نهاية عالمك لكنه مايزال على الحدود الأخيرة لعالمك الجديد، أخطيء في المراسلة، خطأ لم أعيه إلا بعدها بشهور طويلة، ترفضني الجامعة لتخصصي الذي كتبته بصورة خاطئة بالأساس .... أراسل آخرين، تتزاحم المواعيد والطلبات، تنصحني دكتورة، وتوجهني أخرى، يمر الوقت، يغلق باب التقديم، وانتظر مرور تلك الأشهر حتى تبدأ المنحة بفتح أبوابها من جديد، يقبلون بي في العمل! 

هل أنت متأكدة؟ لا
يسألني مستشار في العلاقات والتنمية ... هل أنت واثقة؟
لأ
صليت ودعيت لأني غير واثقة
تقول لي صديقتي دومًا أنت تهربين!
أقول لله يارب لو تعلم لي طاقة أبقني هنا، لو تعلم لي خير هناك يسر لي هناك!

ويسر لي هناك ...

في النهار أتشاغل، وفي الليل أمسك دموعي، أكبت شوقي لمحب، لحضن دافيء يلملم شتات قلبي ويجمعه، أمسك هاتفي الذي لا يرن إلا لمشاكل العمل، ولا أسمع فيه أي صوت إلا زملاء العمل المملين جدًا، ورئيسي في العمل الأخرق الذي يشكوا من أسألتي الكثيرة كي أفهم نظام العمل ويرد ببلاهة لا أعرف! ثم يشكوني!
في الليل، أريد غرفتي هناك على الجانب الآخر من العالم، بعد البحر والصحراء والجبال والبلاد والبيوت والأشجار والناس والسحاب وكل شيء، أريد كوب القهوة وشباك غرفتي وشجرة البونسيانا، أريد زقزقة العصافير ورائحة الصباح، أريد سيارتي وجولاتي الليلية رغم وحدتها كانت ألطف، أريد سريري ومكتبتي، أريد الأريكة التي أنام عليها عندما يقاتلني الأرق على الراحة، تغطيني أمي وتتركني نائمة ...

في الغربة أشتري الفاكهة، وأبحث عن الخضروات المجمدة وأطبخها مثل أمي، أشتري التوابل التي كانت تستخدمها أمي، أشتري دجاجة كاملة صغيرة، أطبخها بطريقة أمي، أضيف القرفة للمرق والحبهان المطحون،  اشتريت أرزا أمريكيا يا أمي، سأبحث عن الأرز المصري في المرة القادمة، اللحم هنا لا يشبه لحم العجل في العيد، ولا النقانق شهية مثل رائحة الشوارع، ورأيت الكوسة يا أمي، وبالأمس كنت سأشتري القرنبيط لكني تذكرت كيف يعاني قولوني منذ أتيت ولا يهضم الطعام جيدًا فتنازلت عن الفكرة .... رأيت مانجو من مصر .... هرعت إليه أشمه لم تكن رائحته قوية كفاية لأدفع فيه تلك القروش التي تبقت معي ......

بالأمس يا أمي، دخلت مكتبة كبيرة لشراء ما يلزمني، الكتب كثيرة، والأدوات مرتبة، والألوان غالية جدا هنا يا أمي، لم أشتري الألوان، ولم أشتري كتابًا للتلوين، وذخبت لركن تطوير الذات أبحث عن كتاب يجعلني أتجاوز غباء رئيسي في العمل، لماذا لا يوجد كتاب يجعلني أتجاوز وحشة نفسي؟

كل أسبوع، أعد الأيام للعطلة ثم تأتي العطلة وتذهب بأسرع مما انتظرتها، تتركني وحدي في الغرفة، مسدلة الستائر لا صوت فيها إلا للرمادي والبيج!

اشتريت زرعة ظل يا أمي، أسميتها أنيسة كي تؤنس روحي، قبل أسبوع نسيتها لثلاثة أيام، لم أسقها في موعدها، غضبت مني وانزوت، لكني صالحتها، ثم في وسط الأسبوع نسيت أن أسقيها ....

في المكتبة يا أمي كنت أحبس دموعي، ماذا سيظن في الناس ان انفجرت باكية؟ طفل ينادي أمه يريها لعبة، الأم منشغلة بجمع الأغراض، الطفل يرفع صوته كي تجيب، تجيبه بكلمات مقتضبة، لكنات كثيرة أسمعها يا أمي ولغات لا أعرفها، لكني أتكلم بالصمت!
بالأمس يا أمي وجدت امرأة، لعلها في نفس سني، أجبرها العوز على ترك أهلها وطفليها، لا تتحدث الإنجليزية، تجلس منزوية حزينة عيونها حمراء، سألتها في خجل هل أنت بخير؟ تكلمت لغة لا أعرفها، لم أفهم، كنت أهز رأسي مثل الغبية في محاولة أن أفهم، أقول لها بيدي انت بخير؟ هزأت رأسها وفي وسط الكلام قالت ماما وأشارت نحو قلبها، تخبرني أن بأمها على في القلب، وأن لديها طفلان صغيران تركتهم مع أمها، وأنها لا تستطيع الذهاب لأمها التي في بلد بعيد، وأنها تعمل هنا، سألتها إن كانت هاتفت أمها؟ هزأت رأسها نعم ..... أعرف ألمها يا أمي ويوجع في صدري، حضنتها، قلت لها ستكون بخير، كانت الدموع تسابق رباطة جأشي، ابتسمت بتوتر وهربت، خرجت لمكان أبعد قليلا كي أبكي، حدثت نفسي أن أعود للسيدة وأعرض عليها أن تهاتف أمها؟ لكني كنت خائفة، من نفسي، من دموعي، من مبالغتي في الاهتمام بمجتمع له حدود وأدب ....

في العمل لا يبتسمون يا أمي، ولا يتبادلون تحية الصباح، قليل منهم يفعل، تعرفت على فتاة أيرلندية، بشوشة، ومجموعة أخرى من صديقاتها كن يعملن معًا، عندما أراهم أحييهم، يبتسمن، يسألنني وإن كان سؤالًا تقليديًا عن حالي لكنه طيب وسعيد، نتمى يومًا جيدًا لبعضنا أو عظلة جيدة!

الأطفال لطاف يا أمي، أحب أغلبهم، في الفصل مع تلاميذ مراهقين، كنت أخبرهم عن الجنسيات، وبدأت أكتب أسماء الدول التي ينتموت إليها، عندي توأم من الهند، أقول لهم أني أحب الطعام الهندي جدًا، وإن سافرت إلى الهند يومًا سأشتري الكثير من التوابل والملابس والحلي، قال لي الولد أمي عادت قريبًا من الهند ومعها الكثير من التوابل، سوف أحضر لك البعض الأسبوع القادم! أذهلني سرعة عرضه، وكرمه، لم أدرس هذا الولد سوى اثنا عشرة ساعة فقط! 

تشرق شمسي في الفصل يا أمي وتنطفيء طوال اليوم، أتمتم ببعض الكلمات العربية في المنتصف، كانوا يسألونني مع معنى هذا، وقفت يومًا وقلت لهم معاني الكلمات التي لا أستطيع التخلص منها .... أصبحوا يقولون معي نفس الكلمات ... ماشي؟ .. ماشي 

أنا لست خائفة يا أمي ...... أنا فقط وحيدة .... أنا أشتاق لحضن صادق أبكي فيه، قبل سفري كنت أعرف أنه لا أحد يحبني مثلما يدعي ..... كنت أعرف أن تلك البسمات زائفة جدا ... هل تعرفين يا أمي شعور امرأة تخلى عنها حبيبها الأصدق؟ أو ما ظنته أنه الأصدق؟
هل تعرفين يا أمي الخذلان المتتابع من الأقربين؟ لم أعد أصدق أحدًا، ولا أرتاح لأحد..... 
هل تعرفين يا أمي أني لست بخير، أني لا أتصل بك حتى لا تغلبني الدموع، وأني لا أسجل صوتا حتى لا تلمحين في صوتي الوحشة، وأني أريد أن أخبرك أني أريد حضنا فأخاف خوفك وبكاءك وهرمك ومرضك، وأنا لا أحتمل أن أسبب أي شيء لأي أحد وأنت فوق أي أحد ..... 

قاطعتِ كتابتي يا أمي برسالة تسألين إن كنتُ بخير؟ هكذا؟ بلا مقدمات .... أنا لست بخير يا أمي، ولست بهذا السوء الذي يرسمه قلبك فيرتعد ..... كنت غريبة هناك يا أمي في بلدي .... والآن فقط تزداد طبقة جديدة من الغربة سوف أعتادها بعد قليل لا تقلقي ...

الشيء الوحيد الذي لم أعتده بعد .... كيف لا أشتاق، ولا أحن، ولا أرنو لمن وافق قلبي وهدأت له روحي وصاحبني على الصحة والمرض .... ثم كأن شيئا لم يكن! لم نعد غريبين بفرصة لقاء ... ولم نعد حبيبين تجمعهم ولو كلمة على البعد ... ولم نعد أي شيء سوى اثنين تخلى كل منهم عن روحه!

يعلم الله يا أمي أني وقفت بالباب طويلًا .... أنتي انتظرت طويلًا ..... وأني تغربت الآن عندما رأيته يضع القفل على بابي الذي أدخل منه قلبه! 

الأربعاء، 24 يوليو 2019

كاتبة مصابة باضطراب القلق المرضي! .... (28)

كان من المفترض أن أكتب هنا ما يساعد أو ما يشعر به مريض القلق والاكتئاب

تلك الفوضى التي تنتابني

أن أحكي عن النوبات إذ تجتاح داخلي كله، وأن أحكي كيف تعاملت أو أتعامل معها
أن أشارك قوتي وضعفي، أن أشارك تلك اللحظات التي أنتصر فيها، وتلك اللحظات التي أحتاج فيها للوقوف من جديد
أن أكتب وأكتب وأكتب
أن أخرج ما في صدري بلا تفاصيل كثيرة، وبلا تعديل ليناسبني أنا فقط بل ليجد من يشاركني ذات الاضطراب ولو جزءًا منه، لكني لاحظت، أو أمسكت نفسي وأنا أكتب عن شيء وحيد، وعن شخص واحد، وعن تجربة واحدة، في علم النفس ما يحكى على السطح هو انعكاس للأعماق المضطربة، لكني لست طبيبة، ولستم أطباء، نحن عجزة نتكيء على كلمة طيبة وفضفضة مريحة ...
أكره فكرة المجموعة التشاركية العلاجية، أكره أن أتكلم عن ضعفي وضيقي والعيون مسلطة على وجهي، والعيون تتفحص عيني وشكلي ومظهري، أكره هذا التواصل المفتوح الذي  لا أسيطر فيه على الأمور والذي ليس بيدي أصلًا فيه شيء.
أكتب نعم، وأعلم أن ثمة من يقرأ، أن هناك أحد أي حد قد يظهر له هذا المحتوى في صفحة بحث عن شيء ربما لا علاقة له بما أكتب عنه، فيقرأ، أنا لا أعرف من قد يقرأ، أنا لا أعرفه ولا يعرفني، أنا خلف الشاشة وهو أمامها من ناحية أخرى، عيوننا لن تتلاقي، ونظرات الشفقة أو التشجيع أو الإحباط لن نتبادلها يومًا، أنا بأمان هنا، أنا بخير.....
حتى تلك اللحظة الشجاعة التي كتبت فيها على فيسبوك، كانت من أجله هو، كنت خائفة عليه جدًا، كنت أعلم أنه لن يقبل أن يكلمني، لن يستطيع، ولن يريد أن أكلمه، عندما يحب أن يكشف لي ستره ويفتح لي قلبه سوف يأتي وحده، وسوف يفعل هذا بأريحية شديدة، كأنه لا سنوات ولا مشاجرات ولا اضطراب، سوف يصبح النهر بيننا هاديء فجأة، وسوف يسبح فيه بحرية وهدوء، لكني لم أستطع أن أسكت، لم أستطع وهو بعيد في مكان لن أعرف كيف أمارس حمايتي له فيه، لن أقدر أن أمنعه أن يؤذي نفسه، ولا أريد أن يكون آخر أملي أن أبكي فوات الأوان، فكتبت كل شيء مررت به عن الانتحار، كل شيء مرورًا سريعًا، حتى يقرأ، حتى يتراجع، فيوم أن حكيت هناك بلا حسابات كان لأجله هو!
واجهت بعدها بشاعة فعلتي في العمل، هناك من تجرأ من زملائي وكلمني بعدها، وهناك من تجنبني :) لا لشيء لكنهم ظلوا لفترة غير مصدقين أن تلك التي توزع البسمات صباحًا، وتفرق الأحضان الدافئة، وتنثر بعض الحلوى، هي التي اسودت الحياة عندها وانتهت منذ زمن!

ابتعدت عن الفيسبوك، ضيقت الخناق حول نفسي، أحاول أن أكون بخير بعده، لكني بالنهاية أكتب عنه!!!!

قرأتُ آخر تدوينة كتبتها، ندمت، لا يجب أن أقول كل شيء هكذا حتى وإن كان مريحًا أن أحكي، وليس شأنكم ولا ذنبكم أن أكرر احباطاتي يومًا تلو الآخر!

لم يكن إنسانًا سيئًا، لم يكن مؤذيًا، لم يكن سوى حلم جميل لم أتمنى أبدًا أن أفيق منه، لم يكن سوى صديق جيد، وحبيب رائع، وأخ مساند، وشريك أتعكز عليه ويمد يده إذ أسقط منه!
كنت أتمنى أن نتقابل وأنا بحال أفضل، كنت أتمنى أن أستطيع أن أكون أنا أيضًا فسحة من ضيق الدنيا، وظلًا يستريح إليه، وسكنًا يحمله كل ليلة، كنت أتمنى أن ألون كل شيء حوله، أن أعطيه المزيد من الضحكات، والنكات، والحكايا الطيبة أكثر من الدموع، والخوف، والقلق، والاضطراب، والتوتر، والخوف والخوف والخوف والضغط والعصبية والثورة والصراخ، كنت أتمنى أن أكون ألطف، رغم أني لم أكن لطيفة جدًا إلا معه، لم أر كل هذا الحب بداخلي إلا معه، ولم ينفض أحد غيره عن قلبي التراب، دخل حجرتي وكهفي الصغير، رتبه، وضع لوحات بألوان قوس قزح، وضع طاولة بيضاء وكرسي أبيض، وضع مزهرية، ووضع فوق الطاولة أيضًا بعض الكتب، وضع في الركن الصغير جرامافون، ورتب لي سريرًا دافئًا، وبدل ستائري السوداء بأخرى حريرية، ألوانها ناعمة، وفتح النافذه بهدوء، فتحة لا تكشفني ولا تحجب النور، وخرج إلى شاطيء البحيرة، جلس هناك وحده، جلس ينتظر مني أي طلب كان يعتبره أمر، تركني وحدي هادئة، وعندما افتقدته وخرجت إليه سألته: لماذا تفعل كل هذا؟ لماذا تتحمل؟ كان يقول لي بأني شمسه، بأني ملكته، بأنه عبد مطيع! أي عبدٍ يمتلك قلب سيده يسوده! وقد امتلكت قلبي!
ما الذي حدث؟ غير جنوني؟ غير اضطرابي؟ غير أن صبره نفذ؟ غير أن طاقته انتهت؟ غير أنه أيضًا غير سليم، يعاني الكثير ويتحمل ويواري ألمه عني، ويحمل وجعه وحيد! 
كلانا خائف، وكلانا حزين، وكلانا يود لو يقدم تجاه الآخر لكن .... ثم؟
لو اننا اتفقنا؟
لو أني عرفت وقتها ما عرفت اليوم، اليوم تحديدًا، اليوم فقط!
لا بأس .... لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا .... آمين!

وبعد، فهذا اعتذار ... منكم ... ومنه .... اعتذار منكم لإني أزعجتكم بشيء شخصي حزين!
واعتذار منه لإني كنت مريضة أكثر من اللازم فلم أكن حكيمة أكثر وواعية أكثر وطيبة أكثر ... لكن والله والله لم أحب أحد ولم أشعر برحمة وود تجاه أحد، ولم أرغب من عميق قلبي أن أبذل الغالي والنفيس لأحد إلا لك ....

والسلام ختام :)

الجمعة، 19 يوليو 2019

سيف الخوف بتارٌ! (27)

أنا خائفة .... مم؟ ولم؟

أنا خايفة بحق .... الأمر لا ينتهي عند حد معين ... أتساءل كل يوم ما الذي حدث وكيف انتهينا هنا؟ وكيف صارت كل تلك المسافات بيننا؟ ومن منّا خذل الآخر؟ 
لم أخذلك ... طرفة عين لم أخذلك ... لمحة طرف لم أخذلك .... لم أخذلك وأنا ممسكة بطرف ثوبك أرجو منك كلمة حب واحدة!
ولم أخذلك حينما كنت أتوسد روحك وأنام
ولم أخذلك عندما قلت لك أخاف نهاية الأشياء، سوف نفترق .... سوف يذهب كل منا إلى طريق ... أقسم بربي لم أخذلك!
كنت أنتظر منك كلمة واحدة، أن تقول لي لن يحدث، أن تقول لي أن هواجسي ليست حقيقية ... أن تضمني لصدرك مثلما كنت تفعل دومًا، في ذاك اليوم كنت محتاجة أن تضمني لضلوعك وتسكنني روحك .... كنت محتاجة أن تقول لي لن يأخذك العالم مني .... لن يأخذك الخوف ... لن يأخذك اكتئابك اللعين .... لن يأخذك الوسواس حيث تخشين كل الرجال إلا أنا ... وترتعبين من كسر المسافات إلا عندما أقترب ..... وتتعثرين في أفكارك حتى أقول لك كل صباح " صباح الخير يا حلوتي"
لماذا قسوت علي في الفراق ولم تقسو وأنا في حضنك؟ لماذا لم تأخذني مني إليك عنوة؟ لماذا لم تضم شعر رأسي بيدك وتجذبها إلى كتفك وتقول لي اسكني أيتها الريح الشريرة؟ فتهدأ العواصف بداخلي، ويرقد البركان حيث يثور؟ لماذا أحببتني كل هذا الحب وسلبت مني الحياة؟ تعتذر مني وترجو أن أسامح عبثك، وجنوني من يغفره لي؟ وخوفي المتزايد من يتحمله عني؟ وقلقي منذ رحيلك من يخمده؟ وصراخ داخلي من يسكته؟ وشوقي لصوتك من يطعمه؟ وفراغ الحياة من مفهومها من يملؤه؟ وتلك الطرق المتداخلة والمتشابكة والمتفارقة والتي لا تهدي لشيء من يأخذ بيدي بينها؟ وهلعي كل صباح من يقول له كل شيء على ما يرام؟
كم مرة أخبرتك أني كنت أهرب مني؟ كنت أهرب حيث لا أنت ولا أنا؟ كنت أهرب حيث لا أفقدك .... كنت ومازلت خائفة ... هل إذا لمست وجهك احترقت؟ هل إذا لمست وجهي؟ ما الذي قد يحدث إذا لامست وجهي سوى الإشراق؟ تلك البسمات التي تشرق عليها صباحاتي في عينيك ..... 
هل أخبرتك أن قلبي يؤلمني إذ أذكر ضحتك؟ أني ملكت كل ما أردت من الحياة بلحظة؟ أني خسرت كل ما تمنيت من الحياة بلحظة؟ أينا الجاني يا صديقي؟ وأينا خذل الآخر إن لم يكن كلينا!
هل تسامحني؟ أنا سامحتك ... أنا لم أجافيك يومًا .... أنا لم ينكسر قلبي إلا لخيال امرأة ظهر لا أعلم من أين! أخبرتك كل جنوني عندما تكلمنا ....
أنت خائف يا حبيبي ... أعرف .... أنت غاضب مني كالصغار ربما .... أو غاضب من الدنيا .... أو غاضب من نفسك ...
متى ينتهي الغضب؟ ولماذا لا ينتهي الغضب؟ ولماذا لا يعود الزمن بنا للوراء أو يسير بسرعة للأمام أو للأعلى أو للأسفل فنلتقي؟ هل نلتقي؟ هل سوف نلتقي؟
كتبتَ منذ زمن طويل أنك مخذول في أحبة ..... رجوت أن أكون أنا كل أحبتك مثلما أنت كل أحبتي ... ورجوت ألا أكون صاحبة كلمة الخذلان! سألت نفسي مرارًا متى خذلته؟ سألت نفسي تكرارًا كيف خذلته؟

منذ يومين .... قبيل منتصف الليل ... أخبرت صديقتي خاطرًا يأتي على قلبي .... أننا التقينا ... قبل الخلق التقينا ... في الماضي السحيق التقينا .... في المستقبل البعيد التقينا ... في حياة أخرى التقينا .... منذ رأيتك أول مرة كنت أعرفك .... كنت أننا التقينا .... اهتزّ قلبي كزلزال يضرب جوانبه .... تنحبس أنفاسي وترتعد أواصري ... أنا أعرفه ... من هذا أنا أعرفه؟ ... وعندما مرت خمس سنوات التقينا ... وعندما مرت ست سنوات تقاربنا وتقاربت أنفاسنا وصرت أعرف رائحتك ... كنت أعرف رائحتك .... وصرت ألمس وجهك .... كنت أعرف وجهك .... وصرت أمسح شعرك ... كنت أعرف تعاريج رأسك .... كنت أعرف سعة صدرك .... كنت أعرف شكل عظامك .... فقبل أن نلتقي يا حبيبي كنا التقينا ....
هل كنت تعرف هذا قبل أن نلتقي؟ هل كنت تدرك هذا قبل ان نلتقي؟ هل كان ما قلته لي في لحظة سكر كان ما يدور بقلبك حقًا؟ هل تذكره؟ هل يعني لك شيئًا الآن؟ ..... " كنت عارف إنك موجودة، كنت متأكد إني هقابلك، الحب ده كله كان لازم يروح لحد" هل أخبرتك أني قبل جملتك هذه بتسع سنوات كنت رأيت في عينيك أنك حبيبتي فأنكرت وهربت منك؟ أني كنت أعرف أني إن اقترب منك سوف أذوب؟ سوف أتلاشى كقطع السكر؟
نحن التقينا .... وهذا خبر سعيد جدًا ... سعيد بحق ... سعيد قدر أني مازلت والله لا أصدق أنا التقينا .... حزين قدر أنه سريع جدًا .... متى انتهى اللقاء ولم أشبع من رؤية عينيك ولم أملأ صدري برائحتك؟ 
نحن التقينا يا حبيبي .... ولأول مرة كان للكلمات معنى، مهمة رائعة ... شكل وطعم ورائحة وملمس ودفء ... كان للكلمات دفء ... كان لصوتك إذ يغالب نعاسي كي أفيق دفء ... كنت أود ألا أفارق النوم كي تدللني أكثر .... لكن مزحاتك كانت تضحكني فينكشف أمري وأفيق!
منذ فترة طويلة، لم أعد أذكر الزمن تحديدًا، أعادوا عرض فيلم ( أرض أخرى Other Earth ) على التلفاز ... تمنيت أن نكون هناك .... تمنيت أن نعرف أننا هناك ... تمنيت أن نكون معًا .... أن يكون لنا ذات البيت ... وذات الدفء ... أن ننظر من الأعلى إلى نسختنا هنا ونضحك ونقول مساكين ... هذا كابوس يرعبهم لكننا معًا وهذا ليس حقيقي!
منذ يومين في السيارة مع صديقتي ... كنت أخبرها عن خوفي من فقدك .... عن الرعب الذي كنت أكابده كلما خفق قلبي لك ... عن أم موسى التي تعرف بقلبها أنه صبي وأنه محكوم عليه بالهلاك ... لأنه صبي؟ في قلبي كان محكوم علينا بالهلاك لأنك كل أمنيتي .... هل كانت الدنيا لتعطيني كل أمانيّ جملة واحدة؟ سوف تأخذك ... سوف تقتلك ... قلت لها هناك مشهد لا أنساه في فيلم "صانعة الأثواب، الخياطة The Dress Maker"، عندما أخيرًا ابتسم لها الحظ وشعرت بالحب ... قالت له أنها تخشى أن تصدق ... أن تصدق أن أحدًا يحبها .... وأنها تشعر بأمانٍ معه ... أزعجه قلقها .. لم؟ ... قالت له أنها نحس .... أنا نحس ... لا شيء أحبه يبقى معي .... قال لها أنت لست بنحس .... وأنا أحبك .... ووقف أمامها مازحًا يود أن يلقي نفسه بخزان الحصاد، يأمرها أن تقول له أنها ليست بنحس وإلا ألقى بنفسه .... لم تعرف كيف تتخل عن خوف لازمها لسنوات .... ترددت في الكلام ... أحبته ... وعندما أحبته خافت من نفسها عليه ... قالت له حسنًا أنا لست بنحس اخرج .... أتدري ما الذي حدث يا حبيبي؟ لم يخرج ... هي كانت شجاعة بما يكفي أن تقول أنها لعنة ... أنا نحس ... أنها شؤم ... أن ليس لها حظ مبتسم من الدنيا ... وأنا كنت أفكر ... هل ألقيك في اليم؟ هل اليم آمن عليك؟ لا يأتيني الوحي مثل أم موسى كي أتيقن يا حبيبي من نجاتك .... كنت بين هذا وذاك ... أن ألقيك وأن أمسك بك أكثر .... هل راجعت رسائلنا يومًا؟ هل تذكر كم مرة قلت لك ابق هنا؟ هل تذكر ما كنت تقول؟ "مالك بس يا حبيبتي أنا هنا أهو" هل كنت تعرف أني كنت أخاف من العالم، من كل العالم ، من أمي مع العالم، وكنت أرتاح إليك وأهرب معك من الدنيا؟ أنتَ الدنيا .... هل تذكر عندما كنا نتسوّق؟ كنت أريد بعض التفاح ... كان يومًا ثقيلًا، كنت خائفة كعادتي، وعندما يأتي الخوف والله لم أكن أعرف لماذا يجيء ومن أين يجيء، كنت أهرب إليك ... كنت ألتصق بك وأمسك بذراعك بكلتا يدي، قلت لك أريد بعض التفاح، قلتَ لي هاكِ ، اذهبي وأحضري ما تشائين، قلت لك تعالَ معي، لكنك رفضت وقلت لي: اذهبي أنتظرك هناك أراكِ من هنا، ذهبت خطواتي ثقيلة، أنظر إليك وأنت تبتسم، هل من المعقول أن أعود سعيًا إليك وأرتمي بحضنك وأقول لك أنا خائفة؟ وسط كل هؤلاء الناس أنا خائفة؟ في هذا المتجر المؤمّن أنا خائفة؟ هل يعقل أن شابة بعمري تجري عليك كأبيها وتبكي فجأة وسط الزحام والناس؟ نظرتك تدفعني للذهاب، بسمتك لا تفهم خوفي، ذهبت، بدأت بجمع بعض الحبات، ظل إنسان يقف بجانبي، أضطرب، يمد يده أمامي بتفاحة، أفزع، تبتسم تقول لي خذي هذه أيضًا، هل كان كل هؤلاء المسنين حولنا وكاميرات المراقبة والأمن وإداريي المتجر يسمحون لي بأن أحضنك وقتها وأبكي؟ أو أحضنك وأطمئن؟ أمسكت ذراعك ... التصقت بك ... تباعدت خطواتي قليلًا، كنت أخاف أن أبدو غير منطقية ومجنونة .... كنت أخاف أن أثير ارتباكك ...
هل تذكر عندما أحزنني أمر من هذه الخرابة التي نعيش فيها، كنا انتهينا من الغداء والليل أسدل ستائره، كنا في الطريق لمنزلي، كنت أخبرك عما يزعجني، تحدثنا قليلًا، أسندتَ رأسي لصدرك، وتشبثت أنا بك وقلت لك أريد أن أخرج من هنا، قلت لي أعدكِ أن أخرجكِ من هنا، قلت لكَ أنا حقًا خائفة ... ضممتني أكثر وقلت بهدوءك الجميل "خايفة من إيه يا حبيبتي أنا جنبك" كيف تسمح لي بالابتعاد؟ كيف تسمح لنفسك بالابتعاد؟ كيف تقول لي بعد كل هذا لم يكن حبًا .... بربك أقسمت عليك بربك ما كان هذا؟ 
هل تذكر حين تقابلنا سريعًا، قبل ذهابي إلى رحلة بعيدة، قلت لك أنا قلقة، قلت مم؟ قلت لك كابوس راودني وأفزعني، أنا خائفة، كان يبدو حقيقيًا الكوابيس تتحقق، قلت لي هذا مجرد حلم، لا تقلقي، لكن كوابيسي تتحقق ... لم تصدقني .. شبح أسود يقف بيني وبينك ... يأخذك بعيدًا عني ... وأنا عاجزة ... وأنت فاقد للوعي ... أبكي بحرقة ... أود لو أنادي عليك ... أمد يدي ... أختبيء خلف ساتر يحجبني عن الوحش ... وأنت ممدد هناك لا تتحرك ... أبكي بحرقة وأصرخ وأضع كلتا يدي على فمي كي يتيه الصوت عودًا لداخلي، والوحش يقترب منك ويأخذك ... وأنا أصرخ لا أعرف كيف أصل إليك؟ كنت تقولي لي أنه حلم، أني أوليه اهتمامًا أكثر من الزائد، لكنك خفت، في قرارة نفسك خفت ... في نظرة عينيك خفت ... وأنا كنت مرتعبة ... وسط كل الخوف كنت أتيه بعينيك ... حيث الأمان وحيث مصرع الخوف ومولده الجاني! 
هل تذكر آخر مرة تكلمنا؟ وكنت قاسيًا، وكنت مرتابًا، وأنا كنت في نوبة لم تنتهِ من القلق، لم تعترف لي أنك تحبني رغم أنك تقول صباح الخير مولاتي، ولم تجب عن سؤالي من أنا؟ رغم رسائلك إلى ملكة قلبي .... ولم تشف لهفتي بأمل .. رغم خطابك " أنا عايش بس عشان أرضيكي" وأنا عايشة ليه لو انت مش هنا؟
هل تسبقني بخطوات؟ هل أنت من المستقبل وتعرف أنه لا يجب أن نكون معًا أكثر؟
هل تخلفني بخطوات؟ هل أنت مازلت واقفًا حيث ازداد توتري وجنوني وكنت أصرخ فيك دعني وحدي؟

الخوف يهاجمني كل ليلة بحلم مرعب، أنك تقترب من امرأة غيري، وأنك حزين، أني أسألك تحبها؟ أتبين أنك لا تعرفها أصلا، أضربك، تقول لي كفى، تقترب، ماذا تريدين، هل كان يجب أن أخبرك في الحلم أني أريدك؟ لماذا لم نهرب من تلك الحياة التي لا تشبهنا؟ لماذا لم نحفر الخندق ونقف فيه معًا؟ لماذا لم نواجه أي خوف بداخلنا تجاه أنفسنا وتجاه الناس؟ ما الذي أخافنا أكثر كي نهرب من معركة لم تبدأ؟ ونموت بسكين لم تُسَنّ؟ 

هل أخبرتك أني بدأت جلسات جديدة؟ لأني لم أعد قادرة؟ هل أخبرتك أني لم أعد أصادق أحدًا؟ أن الجميع بلا استثناء لم يكونوا هنا؟ وأن لكل منهم مشهدًا واحدًا على المسرح لا يؤدي غيره، ولا يزيد من عدد الكلمات التي يحفظها ولو على سبيل اللباقة؟
هل أخبرتك أن أول طلب يطلبه المعالج أن أمحو كل أثر لك؟
أخبرتك أني حاولت ألا أتلصص عليك، أني نجحت ألا أزعجك، أني أكبت كل يوم رغبتي الشديدة في الرجوع من العمل والارتماء بحضنك وإخبارك ما حدث، أني أكبت فضولي الشديد أن أسألك كل مساء كيف كان يومك؟ أن أضمك، أضمك بشدة، أضمك مثلما لم أفعل من قبل، أضمك حتى أعصر الهم من رأسك، وأخرج الخطايا والآلام من أخمص قدمك، أضمك حتى يخرج ضيق قلبك مع قطرات العرق، أضمك حتى تبكي، وأبكي، أضمك حتى لا يبق لما كان قبل اجتماعنا أثر ولا معنى، حتى تخرج الدمعات التي كنت تحبسها، وحتى تنفرج الدمعات التي كانت تحبسني، وحتى تنام مثلما كنت تنام قرير العين هاديء النفس مطمئن الفؤاد على صدري ..... 
أخبرتك ألا أزعجك، وعدتك، وعدتك ألا ترى طيفي، ولا تلمح كعب قدمي ولا طرف ثوبي، وأنا والله أحاول يا سيدي، أحاول يا قمري، أحاول قدر ما أستطيع، أخبرتك ألا أزعجك، ولسوف أهاجر إلى مكان ليس بالبعيد مؤقتًا حتى يحين موعد سفري البعيد إلى حيث لا يزعجك وجودي أبدًا إن كنت تنزعج .... لو أقتل نفسي؟ أتمنى كل ليلة لو أقتل نفسي .... أتمنى كل ليلة لو لم أكن هنا من البداية .... الخوف يمنعني ... الشجاعة أحيانًا ... 
يخبرني المعالج أني سأبدأ من جديد .... يخبرني أني عندما أتخلص من تلك العلاقة سوف تبرق لي الدنيا 

هل عرف المعالج معنا يا حبيبي معنى الدنيا؟ هل يجدر بي أن أخبره عنك أكثر؟ عن أنك الدنيا؟
كيف يطالبون الناس أن يتخلصوا من أرواحهم كي يعودوا للحياة!

السابق ٢٦

الثلاثاء، 16 يوليو 2019

كاتبة مصابة باضطراب القلق المرضي! .... (26)

أحب الموت ... لا أخاف منه مثلما كنت .... أريد أن أموت مفتوحة العينين ... أخوض معاركي .. واعية ... أخسرها أكسبها ليس هذا هو المهم .. المعركة ستنتهي وستبقى الصور ... لا أريد أن أموت جاهلة!

المعرفة ... كالجرب .. نعم لم أخطيء كتابتها .. المعرفة كـ الجرب ... تؤرق عقلك، وتنزع من قلبك كل سكون وهدوء، المعرفة تمنحك السكينة، بعد القلق، تمنحك السلام، ولكن؟ بعد المعركة ...

وأنا في الظلام منذ شهور وسنين، أحارب الأشباح، أرهف السمع علّي لا أخطيء التصويب، أنهكني الخطأ فاستسلمت طويلًا لكل الخوف الآتي من الشمال والجنوب والشرق والغرب، من الأرض التي أجلس عليها، من السقف الذي لا أعرف متى ينطبق فوق رأسي، أو أنه جاثم بالفعل فوق قلبي!

أخذت القرار من عامين أو أكثر، أخذت أول خطوة منذ عام على الأرجح، جلسات عدة، أفهم فيها عن نفسي، تلك الضعيفة تقوى بالمعرفة، وتلك القوية تتضاءل بالمعرفة، وهذا الإله الذي بنيته لنفسي من السراب يتلاشى، وتلك الملائكة التي تطوف حولي تتكشف، لا تعدو مجرد ظلال اشخوص ليست على قدر من الحقيقة والشفافية في الأصل كي تصير ملائكة!

أنا عدوة الجهل، أنا عدوة الظلام، أكره الطرق التي لا تنكشف أمامي، أكره الخيالات التي يسببها الشجر في الظلام على الطرق الطويلة، أكره ما وراء الجدار حتى ينكشف، كيف صادقت الظلام، وعشت في تلك المتاهات أعوامًا، لا أفهم ولا أعرف ما الذي يحصل!

في نوبة اكتئاب، وقتما كان هناك حبيب، ووقتما كان حبيبي يلازمني هناك، سألني هل تتصورين يومًا أن يجمعنا بيت؟ أن نعيش في مكان واحد؟ بسرعة قلت له: لا ... بالطبع لا ...
كنت أعاني نوبة اكتئاب قاسية .... عرض عليّ وقتها أن أتحدث مع أحدهم، أن أخبره ما أشعر به .... قلت له لا أريد، خائفة، هل ستكون معي؟ أخبرني أنه علي أن أفعل هذا بنفسي، لا يصح أن يكون معي أحد، لكنه كان ليأتي معي فقط لأجلي....

ماذا حدث في الأيام التالية؟ هل تعافيت؟ هل خدعته؟ هل مثلت عليه أني بخير وأنا لم أكن كذلك؟ لا أذكر، كل ما أذكره أنني لم أفعل أي حماقة أخرى تستوجب أن نتحدث عن اكتئابي، أو تستوجب أن يقول لي هيا للطبيب!

أنا أكره الأطباء، أكره رائحتهم، أكره الكراسي عندهم، أكره ساعات الانتظار، أكره الانتظار ولو كان للحظات فقط! أكره المرض، لماذا أكره المرض؟ ... حسنًا ... الآن أفهم عن نفسي أكثر ... أكره المرض لأنه ضعف!

وكنت أخاف منك لأني أضعف أمامك، وكنت أخاف الارتباط لأني أخاف أن يتغير كل شيء، أخاف أن أكون معك بمكان واحد لأنني كنت أريد أن أكون وحدي طويلًا، لكني لا أطيق أن أكون وحدي بدونك .... أنت تؤنس قلبي ... أخاف الوزاج ..... لأني أخاف ألا يسير الأمر كما أريد ..... هل سألتُ نفسي يوما ماذا أريد؟ كلا لم أفعل ... فلماذا أكره شيئا لا أعرفه ولا أعرف ما أريده منه!
أكره لحظات مرضي معك، لأنني أكون حملًا ثقيلًا، أشعل بثقل روحي وقتها، وأنت كنت تخفف عني كثيرًا، فكنت أريد أن تسعد بأي شكل!
لماذا لم أقبل ضعفي برحابة صدر؟ 
لماذا لم أقبل مرضي برحابة صدر؟
لماذا لم أقبل أن تكون سندًا برحابة صدر؟

لماذا فقط عندما كنت تبتسم لي أنك لست مستاءًا كنت أقبلني!

القلق بدأ، القلق يشتد، القلق يمنعني النوم، هل كنت أدرك قبل يومي هذا جنون تفكيري؟ أني كنت أريده أن أبعده لآخر الدنيا وأنه الدنيا؟ لماذا كنت خائفة لهذا الحد؟
يقول لي المعالج: كنت خائفة من ضياع الحب! 
وهل احتفظت به الآن؟

قبل عام، فتحت صدري بسكين، فتحت جمجمتي وكأنها رأس غيري، أبحث فيه عن الخيوط، أحاول الوصول لأي بداية، لأي سبب لما فتح على باب الجنون هذا، فهمت قليلًا، انزاح عن قلبي شعوري المتلازم بالذنب تجاه كل شيء!

هل كنت تعلم أني كنت أشعر بالذنب لأني كنت سبب اضطراب الهواء إثر مروري مسرعة بجانب أحدهم!!!
كنت أشعر بالذنب لأني لم أفهم أمي كما ينبغي، لأني إذ فهمت المعضلة التي تسبب لي فيها لم أستطع مسامحتها، شعرت بالذنب لأني رأيتها ضحية، ورأيت نفسي قاسية جدًا في غضبي عليها إذ كسرت في قلبي الكثير بعنادها وعدم فهمها لي، بقسوتها حتى وقد صرخ فيها أخي أني أذهب للعلاج النفسي بسببها! 
أمي لسنوات كانت تظن أني أفتعل النوبات الأليمة التي كانت تنتابني
لسنوات ظنت أنني أمثل الدور عليها كي أثير شفقتها فكانت تزداد تجاهلا وقسوة، كانت تظن أني أحاول الانتحار بسببك، بسبب من قبلك ... لم تكن تعرف أني لم أعد أرى الدنيا ..... كانت تظن أني أهددها :)

لم تكن تعلم أني قمت بتوزيع ممتلكاتي، أخبرت صديقتي أني لربما أضعف يومًا فإن حدث، أخبرتها أن تعطيك من أشيائي، أن تحتفظ بما تريد، أن تسلمك كل تلك الرسائل التي كنت أكتبها لك، أت تعطي حاسوبي لأخي إن احتاجه أو لك، أن تأخذ ملابسي، وكتبي، أن تعطي صديقة أخرى من ملابسي وعطوري وأشيائي، وأن تحرق الباقي إن تبقى شيء! لا أحد غير أحبائي يلمس شيئا يخصني!
لم تكن أمي تعلم أني أوصيت صديقتي بالفعل حال موتي ومر أكثر من عام على وصيتي تلك، ومنذ شهور ونحن ندفن والدة صديقة أمي (امرأة طيبة جميلة أحسبها على خير) أوصيت أمي بأن تخبر صديقتي فلانة أن تتكفل بالدفن، أن تقوم بما يلزم.
لم أعد أخاف من الموت ولا وحدته!

الآن أفهم قليلًا، الآن لا أشعر بالقسوة تجاه أمي ولا بالغضب، لا أشعر بالشفقة ولا بالذنب، أشعر كأنها في كل يوم هي أم جديدة، أتعامل مع اليوم بيومه، أغضب منها اليوم، ولا أخاصمها على إثره للغد، لا تؤثر بخياراتي مثلما كانت تفعل، ولا أفتقد مشورتها مثلما كنت أفعل.

هل تعرف؟ سافرت لأسبوع إلى ساحل البحر مع أصدقائي، لم أتلهف لمكالمتها، لم أشعر بالذنب أني لم أفعل، كنت أرد على المكالمات في الوقت المناسب لي، عدت من السفر مشغولة بمشكلة مع الطبيب، ومشكلة في أوراق سفري، قلت مساء الخير، حمدالله بالسلامة، الله يسلمك ... وانتهى!
تعجبت أمي أني لم أشتاق .... ولكني لم أتعجب .... أنا شفيت من عقدة الذنب .... شفيت من هذا التعلق المجنون ..... شفيت من طلب الاهتمام .... شفيت من تسول الحب .... شفيت من الاعتماد عليها في الأمان .... لم يعد لي أمان .... أصلي وأنا أرتجف، أقول يارب ... أبكي بشدة .... أتوسل ..... تنزل السكينة على قلبي :)

أقبل عصبيتي وجنوني، أقبل غضبي ... أصبحت أعرف لماذا أشعر بهذا الغضب الدائم، ولماذا لا أرضى بسهولة:)

أقبل مشاجراتي معك، أقبل خوفك، أقبل رفضك، أقبل ابتعادك، أقبل حياتي بدونك، أقبل وحدتي، أتكيف معها وأحبها، أنتظر أن أكتشف في قلبي المزيد

اضطراب القلق لا يجعلك ترى، لا يمنحك رفاهية الفهم، لا يدعك تقترب من الجرح كي ترى ما يلوثه، وأنا كنت أغمض عيني عن الجرح وأتساءل ماذا يؤلمني!

اليوم أرى جرحي غائرًا
اليوم أرى الجراح سندًا ومساعدًا
اليوم أصبحت أكثر رغبة في قطب هذا الجرح!

تركت الطبيبة، أخبرتك أني تركتها؟
قابلت مساعدًا آخر، ينصحني بآخر أكثر اختصاصًا .... أنا أكره أني أحكي لأحد، أنا أكره التعري .... لكني سأفعل، سأحكي للطبيب الجديد، لربما ليس غدًا، ولكن قريبًا، قريبًا جدًا!

أنقذتني الكتابة من السرداب المعتم ... أنقذني الحكي للورق، أنقذني الحكي لشبح وجودك ...... ولعله أنقذني الوهم اليومي أني سأراك صدفة رغم المسافات والبحور..... أنقذني الأمل لربما الطرق تجمعنا .... أنقذني أني أكلمك في نفسي وأنك ترد في خيالي على خيالي ... تراك تذكرني أصلا؟

الاثنين، 15 يوليو 2019

كاتبة مصابة باضطراب القلق المرضي! .... (25)

أتساءل كل يوم، كيف يمر الوقت هكذا؟

متى مرت تلك السنون؟ متى كسرت حواجز الوقت؟ ومتى تغيرت ملامح هذا القلب الذي لم تعد له هوية؟

قابلني منذ أيام، يقول عني مشرقة، يبحث عن سر انطفاءاتي، يقترب حثيثًا من حصوني المقنعة، يقول لي لا تقنعيني أنك شخص آخر، لك لون مثل نور الشمس، لماذا تدارينه؟ لماذا تصرين على عدم وجوده؟ ماذا حدث؟ وكيف انطفأ ...

أخبره بالدليل القاطع أنه مخطيء، أن هذا الأصفر المشرق الزاهي ليس لوني من الأساس، لقد اعتنقت ألوانًا كثيرة كلها ليلاء، الكحلي أفتحها .... صدقني .... الحواسيب لا تخطيء، راجع نظريتك!

يفتح عينيه عن آخرهما، يقول بل تخطيء، كل شيء يخطيء، يقول كيف أقاوم هذا البهاء وتلك الطلعة؟ إنها تظهر رغما عنك، ماذا حدث؟ ولماذا تخفينها بقوة .... هل تسمحين؟ أسأله بم؟ يقول بالاقتراب؟ هل تسمحين بالحديث؟ هل تسمحين بأن أوضح لك بعض الأشياء الكامنة في قلبك؟ هل تسمحين أن أكشف بعض أطراف لعبتك العقلية عليّ وعلى نفسك؟
هل تسمحين؟ أنت ترين كل تلك الأشياء، أنت تخافين من الانكشاف والظهور، أنت تخفين شيئًا لك كامل الحرية والإجلال في إخفاءه، لكنه عظيم!
لماذا ينحن كأنه يجلّ عملا عظيما لا يد لي فيه؟ لماذا يوزع انحناءاته أمامي! يتوسل، يستسمح، يضم يديه في أدبٍ شديد!

أقول له: لقد انتهيت، أنت تخبرني بقصة خيالية!
يسترسل أكثر، يكشف المستور، أضحك، يخبرني أشياء كثيرة عن نفسي، لا يلاحظها إلا مدقق في أحوالي، أتراجع خطوة للوراء، يلاحظ انزعاجي، يعتذر، الفضول يأكلني، لم يقرأني أحد من قبل هكذا، حبيبي فقط قرأني، حبيبي فقط كان ينكشف له كل المستور، حبيبي فقط رأى ما أخفيه عن الكل حتى عن نفسي، رأى كل العقل ورأى كل الجنون!!!
يتراجع، يطلب المغفرة، يقرأ الفضول في عيني، يتكلم أكثر، يخبرني أكثر، يفسر خروقاتي أكثر وأكثر ... وأنا؟

مندهشة! 

كيف كنت بكل هذا الغباء، يتحدث مع الحاضرين، يتكلم عن أنواع البشر بشغف، يأخذ كامل أذني وحبيبي وحده يأخذ كامل قلبي .... أراه يتجسد في الكلمات، أرى العمر الذي انتابني فيه الجنون يمر أمامي مثل قصة غريبين عني!

أحمل في حقيبتي في اليوم التالي آلاف الأسئلة، لا يتسع الوقت لي .... لا أسأل مرتين! هكذا عنادي وجنون عظمتي!

أحمل إجابات مرهقة، أحمل أسئلة جديدة كل يوم .... أسير في مفارق الطرق، أقف ... أي طريق يجب أن تسلكيه يا ذات الرداء الأحمر؟ أي طريق يجب أن تسكله أليس أيها الأرنب؟

أنضغط، أحمل الغضب شعلة لا تنطفيء في قلبي، أحمل القلق والخوف، أحمل التناقضات والجنون .... لا أحد يسمع صوته ويعطيك صدره كي تستريح ... بلا مقابل .... هكذا ....!

أنهي بعض الأوراق ... لماذا كل الطرق لا تجيب أي شيء، تتشابه ولا تتقاطع ....

أستيقظ في بعض الأيام وأنا أعرف من أنا، أو أني كنت أظن أني أعرف

اليوم أشعر أني لا أعرفني .... لا أعرف من أكون حقًّا

أحيانًا ... أحيانًا أرجو ألا تكون كثيرة .... ولا تكون مزعجة لك على البعد ... وكأن ما قدر يدور فقط في قلبي قد يصلك ,, قد يزعجك ... فأتراجع حتى عن الخاطرة
أحيانًا ... أتمنى لو يعود الزمن .... لو أسألك من أنا؟ أنت الوحيد الذي كنت أصدقه ... أنت الوحيد الذي مازلت أصدقه .... محدش حبِّك ولا هيحبِك أدي! صدقت!

الجمعة، 12 يوليو 2019

كاتبة مصابة باضطراب القلق المرضي! .... (24)

رغم كل الطرق المغلقة تبقى عينك معلقة على طريق واحد يبحث قلبك فيه عن مخرج!

تلك الاضطرابات الكبرى التي تحدث فتحملك إلى حيث كان مقدرًا لك، ولا تقاوم

أحيانًا تفقد سبل المقاومة

أحيانًا تتمسك بقشة الغريق!

هل أخبرتك يا (أنا) أنك كنت قشة الغريق؟
أن حضورك كان يمنحني كل السبل للمقاومة وكل السبل للحياة؟
أن الأمان الذي تحمله بقلبك وتنشره حولي وتنعمني به كان يجعلني أخلع بحرية كل أقنعتي؟
كنت معك أنا، التي رأيتها والتي أعرفها ولا أعرفها
كنت معك أنا التي رأيتَها وأخبرتني عنها
كنت معك تلك الحنون المرحة الذكية التي تبرق وتشع من عيونها الحياة
كيف وجدت كل هذا وحدك؟ وكيف وصلت إلى قلب الحضيض؟
كيف كنت أبكي بحضنك، أضحك بحضنك، أنام بحضنك قريرة العين مطمئنة؟
كيف بعد كل هذا الصخب كنت تحملني للهدوء الساكن بقلبك؟
كيف وثورات البركان في عقلي متتابعة كنت تحملني إلى شاطيء البحر الأزرق والسماء الفسيحة والموج الناعم الذي يداعب شعري ولا يتعدى، ولا يغرقني، ولا يخيفني، ولا يرعبني، كان قلبك أرجوحة ومهد طفل يهدهدني، كيف؟
كيف كنت تحجب عني كل ثوراتك، وتمتص كل نيراني وبراكيني الهائجة دوما الثائرة بلا انقطاع؟
كيف أنه لا أحد يحمل ذات الأخضر بقلبه ويجعلني ألهو بجنته مثلما فعلت!
لا أحد يحبني مثلما فعلتَ أنتَ .....

أغلق الباب، منذ أن طلبت مني أن أغلقه، منذ أن أعطيتني كل قسوة تجبرني أن أغلقه.... أحاول .... أقاوم ... أسقط ... أدور في دوائر .... أنعزل ... أتكور ... أكتب ... أبحث عنك في كل شيء .... أجدك في قلبي دومًا ... أشعر بابتعادك ... أشعر برفضك ... أتمنى ألا تكون كراهية .... أتمنى أن أجد الجنة ثانية .... أتمنى ولو يومًا واحدًا على شطآن زرقة بحرك ... أطفيء فيه نيراني التي لا تخمد ... أنام في حضنه قريرة العين ثانية ... ولو لمرة واحدة!

أنا قوية بما يكفي ... أعرف
أغلق الباب خلفي وأمضي ... أعرف
أقطع الذراع الذي يؤلمني ... أعرف

لم تكن ذراعًا ... لم تكن بابًا ... لم تكن ندًّا أكرهه ... كي أمضي

لا أحد يقتلع قلبه من مكانه، ولا يقفأ عينيه بيديه، ولا يسحب روحه إلى الخارج بإرادته، ولا ينسلب حياته بخنوع ورضا

لا أحد يطرد نفسه من الجنة .... ولا أحد يقصد أن يُطرد!

السبت، 6 يوليو 2019

كاتبة مصابة باضطراب القلق المرضي! .... (23)

في لحظة ما تفرغ جعبتك، تضع كل كلماتك على نفس السطر متراصة ومتلاصقة، تجمع كل الحكايا بنفس الصفحة، وتحشد كل ذكرياتك بصورةٍ (فوتوجرافية ربما) منتقاة بعناية، وتهمس بكل ما يلخص مشاعرك (أٌحِبُّـكَ) وتجعل كل شيء كان يعني الكثير .... بذات السلة ...

يقولون لا تضع كل التفاح بسلة واحدة، إلا إن كنت تنوي الخلاص منه، فالأفضل أن تجمعه كله بسلَّة واحدة .....

تخرج كل ما لديك، تعاتب بكل العتابات، تتنفس، تحضن، تبكي، ترجو، تسامح، تتنازل، تضحي، وتقبل من نظيرك ما يقدم على سعته وقلته، على رقته وغلظته، تنوي بصدق أن تفرغ جعبتك وتتخفف من حملك!
تفتح قلبك على مصراعيه، لا وقت للألم، لا حد أقصى تخشى منه لإنك تخطيت ما فاق احتمالك منذ الأمس، اليوم تنوي أن تقطب هذا الجرح، أن يندمل، أن يلتئم، أن تتعافى!

تنتظر، بقدر ما يُسمح لك بالانتظار، بقدر ما تظن أنهم قد مجرد "قد" يأتون إليك بتفاحة واحدة، بكلمة واحدة، بشربة ماء واحدة تنقذ لهفة جوفك الظمآن!
تنتظر كثيرًا قبل أن تفرغ كل جعبتك أمامهم، تنتظر كثيرًا قبل أن تعطيهم آخر الفرص وتسلبهم آخر الآمال، تسمع الكثير والكثير من الكلمات المخيبة للأمل، كل الإشارات والدلائل التي تخبرك بأنك لم تكن أكثر من دمية في يد صغير يتقاذفها ويدهسها، بأنك كنت تفرح إذ يحضن الصغير دميته في المساء، بأنك كنت لا ترى كيف أن الصغار يلقون الدمى القديمة عندما تأتيهم دمى جديدة، أو عندما يملون! 
أنت دمية، مجرد دمية أعجبت طفلًا كبيرًا، دمية قرر بلحظة أنها لم تعد مهمة، لم يعد لها مكان على السرير أو فوق المكتب أو بين الأرفف، ربما لم يكن لها مكان في ذكرياته أيضا!
قلبك الأبله، قلبك الطفل الصغير الذي يحب كل شيء، يحب الحياة، يتمسك بأطرافها وكأنها كل شيء، قلبك الذي قد ظن أن الكلمة وعد، وأن الوعد سيف على رقبة الفرسان، قلبك من ألبسهم ملابس الفرسان ... فرح بتيجانهم الزائفة لممالك زائفة قالوا أنها منصوبة على قلوبهم، فأعطاهم تاجه الثمين، ودرته الوحيدة، وأسلمهم كل مفاتيحه ورضي (محتالًا عليه) بتلك التيجان (الفالصو) وتلك الألقاب التي لا تتعدى حروفها.

أنت دمية .... أنت لا شيء ..... أنت لم تكن من الأساس عندهم أي شيء سوى نزهة لطيفة وكلمات ومشاعر تأججت فجأة مثل حرور الشتاء، وزوت فجأة مثل نسمات نهار الصيف في كوكب تغير مناخه!

كان عليك أن تفعل شيئًا، أن تحفظ باقي كرامتك، أن تبعثر أخر الأمال، أن تنثر آخر تراب الجنيات فوق حلمك الوحيد الجميل وأمنيتك الكبرى .....

كان عليك أن تسمع الرفض بأذنيك ثانية وثالثة، وللمرة المائة، أن تراهم يغادرون، يبكون خديعة غيرك لهم، يتحسرون على حلم لم يكن لهم من البداية، كان عليك أن تتجرع كل تلك المرارة وحدك، أن يقتحموا مناماتك إن حدثت معجزة وخلدت للنوم، أن يأتون في حلمك فقط ليخبروك بأوجاعهم التي تسبب فيها سواك، أن تتألم لأجلهم، أن تتلصص أخبارهم، أن تأكل كل الحوامض وتجر أذيال عقلك الذي يتشبث بطوب الأرض كي لا يطيعك ولا يأتي معك، أن تحمل قلبك النازف وتذهب إليهم، تسألهم باستحياء، تسألهم بلهفة تجاهد أن تخفيها، تسألهم وتود لو تستأذنهم في أن تحمل كل هذا الوجع عنهم، تعيد السؤال مرارًا وتكرارًا ( هل أنت بخير؟) تأتيك تلك الإجابات اللزجة المحفوظة والمتحفظة، تبتلعها وتبتلع مرارة الإهانة من التحفظ وكأنك كلب أجرب يقترب من ساحاتهم الجليلة، تبتسم، تجبر شفاهك المأسوف على توردها باصفرار على التبسم، تعرف أن صوتك في الهاتف ينتقل إليهم ببسمته الحقيقية والزائفة، تجبر قلبك أن يصدق الشفاه في بسمتها، ترد بهدوء فقط كنت أطمئن.
تلك الردود القاتلة مثل حسنًا، اطمئن أنا بخير، لا تقلقي، تلك الردود التي تتكور مثل قطعة معدنية صدئة في يد متسول بائس بردان وحزين يتجرع الإهانة مقابل الحياة، تلك الردود التي كانت تلقى ولا يلق لها بالًا .... كل تلك الكلمات الجافة، والشائكة والجارحة في صمتها .... تجمعت ذاك اليوم في سطر واحد كخنجر قاتل!
تلك العيون التي لا تكذب أبدًا، قد طوتني بكفن الكلمات الكاذبة! قد حفرت لي قبري في بؤبؤها ولا تدري، قد سجّت جسدي البارد من الموت فوق المغسل، وألحقت الكافور ببشرتي الشاحبة، تلك العيون التي أشرقت منها الشمس قد غيبت شمسي، شاهدت فيهما الحياة وأزهرت، ويومها شاهدت فيهما جدثي ولحدي، تلك العيون التي وعدت لا تكذب، خدعتني، تلك العيون التي وعدت لا تغيب، ودعتني ورحلت!

كان عليك أن تنهي تلك الحياة التي تقطر على حافة القبر، أن تقطع هذا الشريان كي تموت أسرع، أن تكمل الطعنة التي تجعلك على حافة الموت والحياة أيضا، فلا أنت هنا ولا أنت هناك!
أن تلقي بنفسك في مقبرة تلك العيون، وأن تحضن للمرة الأخيرة ذلك الرمح من الكلمات الجارحة، وأن تملأ أذنيك بالرفض الموجه ضدك، وأن تقتل نفسك بسيف المواجهة القوي عوض عن سكين الإهمال البليدة، وأن تمني نفسك بعد الموت بالحياة الآخرة، بالانبعاث، وبالأمل الجديد، وباحتمالية الجنة والفردوس، وبأن الحلم دنيا والدنيا حلم قصير نفيق منه على الحقيقة، فلربما كان الحب القادم هو الحقيقة!
لربما!
رغم كل تلك التخاطرات، رغم اتفاقكما في كل ميل وهوى، رغم تكامل المحبة، ورغم رفعة المودة، ورغم اتساق العبارة عندما تكونا أنتما شطريها، ورغم تحول العواصف بين همساتكما إلى نسيم، ورغم تلك العيون التي تتعانق عند كل لقاء ولا تشبع أبدًا من هذا العناق، ورغم تلك الأيدي التي رسمت أخاديد التشابك كأن فراغ الأصابع مفصل ليملأ الآخرى في يد الحبيب، ورغم تلك العبارات التي تكملونها ضحكًا بدون كلام، ورغم تلك الموسيقى التي تحملكما فوق سحابة عابرة تخجل من البكاء أمام سعادتكما، ورغم تلك اللمسات التي تهبكما حياة غير الحياة، ورغم ذاك الدفء الذي لا يفتر، ورغم هذا الأمن الذي لا يهتز، ورغم هذا النهر المتفق الموصول بينكما بلا انقطاع، ورغم الكهف والجزيرة والبحيرة، ورغم سحابات الخريف، ونكات الصيف، وأحضان الشتاء، وضحكات الربيع المتراقصة، ورغم أندريه ريو، ورغم كلمات أم كلثوم (كنت بشتاقلك وأنا وانت هنا بيني وبينك خطوتين)، ورغم حفلة ياني التي عشتما حلم حضورها سويًا حاولتما ولم يكن الحظ معكما، ورغم صوت أديل الأوبرالي، ورغم النكات التي كان يلقيها في ترجمة كلمات أغنيتها وضحكاتك، ورغم عمر خيرت، ورغم القصائد، ورغم أحلام الهروب من البلد، ورغم تلك البلدة البعيدة التي وعدك أن تكونا هناك سويًا لكن قارب حياته لم يتسع إلا له وحده فألقاك في عرض البحر، ورغم تلك الهمسات الناعسة التي تقول أحبك بدلا من أحلام سعيدة، ورغم أن هذا الحب كان كل أحلامكما السعيدة، ورغم كلماته في الرسائل، ورغم لمعة عينيك إذ تقرأين، ورغم بسمته البلهاء إذ يشاهدك، ورغم مقاومتك في كل مرة تلتقيان أن تسرعي كل خطواتك، أن تختصرينها في خطوة واحدة، أن تكون الخطوة الثانية بين ضلوعه ورائحته وفقط، ورغم حماسه وهو يحكي موقفًا غبيًا، ورغم رجولته وطفولة عينيه إذ يرتاح إليكِ، ورغم صوته الناعس إذ يغلبه النوم قبلك، ورغم أمنياته المتعددة والمتكررة أن يحضر فطورك الملكي ويسافر معك إلى الدنيا، ورغم أنك أنت الدنيا، ورغم أنه النجم الوحيد في سماءك، ورغم أنكما تحضران الربيع حيثما تذهبان، ورغم أنكما تبعثان بالحياة، ورغم أنكما تدبان بخفة الأطفال في إشراق ولطافة وصخب محبب، يشرق في القلوب، كان على الحكاية أن تموت!

كان على كلمة النهاية أن تنزل
كان عليك أن تقرأها
رغم سواد ألوانها تقرأها
رغم صعوبة نطقها تقرأها
رغم عتامة عينيك عنها بالذات تقرأها
رغم أنه لا ورق هناك في الدفتر كي تبدأ قصة جديدة ... تقرأها
رغم أنه لا قصة بدون بطل .. تقرأها
رغم أنك كنت قويًا كي لا تنتحر وكانت النهاية مثل سكين بليدة تقرأها
رغم أنك تقتل نفسك إذ تقرأها .... تقرأها

تقرأها ... وتترك لروحك الحرية كي تتحرر من الحياة

تترك لها متنفسًا عند الموت بعدما كانت لسنوات معلقةً على حافته

تمنحها رحمة الموت .... وكرامة الدفن

تقرأها .... وتترك لنفسك متعة المجهول بعدما أفنيت رعبك من عتمته

ما الذي سيحدث بعد الموت

ماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ لا شيء! هل يشعر الموتى؟

يتمثلون فقط ما بعد الموت .... ينتظرون لحظة النشور ... ينتظرون لحظة الإحياء الجديدة .... ينتظرون النعيم

يقال أن النعيم للعاشقين الصابرين

وأنا عشقت
وأنا صبرت
وأنا مت
وأنا صحوت
وأنا أنتظر هذا الخلود
وأنا أنتظر إكسير الحياة الأبدية
وأنا أعرف الآن .... ما قتلك لم يكن ليحييك ... وإلا فلم قتلك ولم يبالِ؟


الاثنين، 1 يوليو 2019

قدرية .... عبثية (2)

هل كانت تدرك كل تلك الفوضى الخلاقة التي تحدث في قلبه؟ هل تقصدها؟ هل تعنيها؟ هل تقصدها وتعنيها وتتجاهلها؟ هل لا تقصدها ولا تعنيها ولكن تعرفها وتتخطاها؟
ثم
كيف هي؟ كيف داخلها؟ هل يشبه خارجها المليء بألوان الربيع؟ وهل يشبه حمرة وجنتيها المدورتان؟ أو يشبه سواد عينيها الذي تقف فجأة أمامه لتدرك أنه بني، أو تتفاجيء أنه عسلي، أن لا تلحظه أصلًا مثلما قد لا تلحظها شكلها لكن طغيان الحضور يأخذك، فتدور حولها لتره ترى ما الوجه الذي يملكه هذا الطغيان؟

في المساء، يجلس وحده، يتساءل هل يا ترى وجد ضالته؟ لا يعرف، حقيقة لا يعرف، هي جميلة، هي رقيقة، هي ذكية، هي خلابة، هي كل ما كان قد تمنى وأراد، هي حلم، ليس صيفي ولا ربيعي ولا شتوي دافيء، هي حلم يمكنه أن يمنحك الأبدية وأنت على الأرض، ويمنحك خلود الآلهة وأنت فانٍ، هي بسيطة، مثل أي شيء بسيط ولكنه آخذ في البهاء، مثل تلك النجمات الصغيرة في السماء، لا تحدث أي فارق إلا أنها تلتمع في هدوء وسكينة، بنور بسيط، بنور صغير في السماء، كيف تجثم السماء على صدرك بغير نجوم حتى وإن سطع القمر؟ وكيف تنير النجمة قلبك بالأنس في ليلة كحلاء؟
ولكن!
لا يعرف عنها الشيء الكثير، هل تحب أحدًا؟ هل هي مرتبطة؟ بالطبع ليست متزوجة، لم تذكر أمامه أي اسم بدون صفة إلا اسمين لفردين من أسرتها على الأرجح أخيها واحد منهما، ولربما الثاني كان أخوها؟ لا يذكر، لكنه متأكد أنه لم يرها يومًا تحضر بصحبة أحدهم، أو ينتظرها أي مذكر عند الباب، ولا تتحدث أمامه مع مذكر بشكل ملفت أنه حبيب أو خطيب، يعرف بعد أيام بذكاء الصياد ودهاء الثعلب انها لا متزوجة ولا مخطوبة، يبقى أن يعرف هل هذا القلب الذي يقلب حياته رأسًا على عقب حر؟
كان معتادًا على عدة نقاط احترافية في العمل، لا يتحدث عن أمور شخصية، لا يبدأ بالحديث عن تلك الأمور التي تثير أسئلة شخصية، لم يتطوع أبدًا لنصيحة إحداهن أو حتى التعليق على تلك الثرثرات العابرة عن العلاقات من مجموعة النساء اللاتي يتبدلن على مكان العمل، ولم يحاول أن يعرف شيئًا، هل ذكرت لك أنه شخص تحفظي؟ هو بالفعل كذلك، لا يعرف أحد عنه شيء، ولا يسأل أحد عن شيء، كيلا يُسئل، عادل بما فيه الكفاية، والآن قوقعته الجميلة التي بناها حول نفسه بدأت تشيكه، يريد أن يعرف بشدة، يريد أن يعرف عنها كل شيء، تمسك هاتفها كثيرًا، لربما يمكن أن يجد شيئًا على صفحات التواصل، يكتب اسمها الأول والأخير بشكل عشوائي، بتسارع نهم، بعيني ذئب، وتربص مفترس، لا يجد شيئًا، وكأنها غير موجودة على الكوكب، لكنه يجد الكثيرات العشرات ربما يحملن نفس الاسم، ولا يحملن قلبه بطرف ثوبهن مثلها!
هل يسألها بعد الغد عندما تأتي لتكمل عملها في جمع تلك البيانات السخيفة؟ هل عندما تسأله شيئا في الطب يسألها شيئًا عن (الفيسبوك) مثلا؟
هي لا تعرف أي شيء عن الطب، تجمع معه بعض المعلومات التي كُلفت بها، ذكرت مهمتها في أول يوم التقيا، لكنه نسي، بدت له في أول يوم مثل فتاة عادية ربما متحذلقة، تضع منظارها الطبي السخيف وتتكلم بدقة وحذر وتباعد، كأنها صاحبة الشركة التي أرسلتها، تقول له أنها المكلفة من رئيس مجلس الإدارة بالخطاب الموجه لمدير المؤسسة الطبية التي يعمل بها، يدخل رئيس الوحدة فجأة فيسمع طرف كلامها، رجل مسن في الخمسين، يرحب بها ويقول نعم تفضلي، من فضلك يا دكتور ساعدها في كل ما تسأل عنه، هي تقدم منفعة مشتركة بيننا وبين شركتها، ولقد طلبت من المدير أن نبدأ من وحدتنا اعتمادًا مني على نباهتك وأنك تستطيع إنجاز أكثر من شيء في نفس الوقت!!!
كان كلام رئيس الوحدة صادمًا، لكنه بعد أن جزّ على أسنانه استسلم، سوف يهملها وسوف تملّ من سؤاله، تبدو غبية متحذلقة، سوف يوقعها في الخطأ، أو يقتلها بتجاهله فيوكل رئيس الوحدة أحد غيره، لكن يا إلهي، ما الذي يحدث له في الأيام التالية حتى يدفع الأيام دفعًا لموعد لقياها؟

ينتظرها، تتأخر، تخبره أنها قد لا تستيطع القدوم في الموعد المحدد، يسهل لها كل العقبات ويبدأ في عملها هي كي لا تؤثر عليها دقائق التأخير، يتظاهر باللامبالاة، يتركها عشر دقائق قاتلة دون أن يطمئن عليها، يأتي متثاقلًا كإنسان جديد ليس الذي عاملها بلطف في رسائله .....
ينتظر الموعد التالي، الشوق يبدأ في التحرك، يتعجب، لماذا ينتظرها؟ ولماذا إذ تخبره بأن اليوم الذي حدداه مسبقًا لا يناسبها يخاطب رئيس الوحدة ومدير المستشفى وبعض العاملين كي يعطيها موعدًا آخر يناسبها؟ ومتى بدأ الكون يدور فجأة حولها؟ وكيف تحول لقاءها الثقيل إلى طرفة رقيقة؟
تسأله عن شيء في رسالة، يرد، مقتضب لكن سعيد، يجعل اقتضابه اقتناصًا لسؤالٍ آخر، يماطل، يستمتع كالمراهق الصغير بظهور اسمها على الشاشة! يجلس مع أصحابه، ينسحب قليلا بدعوى الحمام، يتسلل إلى أماكن عدة، لا يتجعل في الرد، ذكي، ولكنها ذكية ولطيفة، يثير خفة ظلها ويضحك، يلقى طرفة مقتضبة مثل وجهه ولكنه يعلم يقينًا أنها تضحك، يعود لمجلسه متغير القلب، ومحاولا أن يحافظ على ثبات وجهه الذي تصيبه عدوى النور.... يكااد هذا القلب يثب.
يعود لغرفته في المساء
يحملق في السقف الهاديء
يتخيل ضحكتها، يتخيل أنه يسير معها، يعرف أنها المطلوبة، لكنه يعرف أيضًا أنه غير مستعد، أو .... أنه ... بصدقٍ، خائف!
يتذكر تلك "البومة" كما يسميها ويسمي كل فتاة يكرهها، يتذكر كيف تعلق قلبه كأنه أمسك نجوم السماء، يتذكر كيف كاد يحارب العالم بالمعنى الصحيح للحرب، كيف كان على وشك تعريض سلامته الشخصية للخطر في مقابل الحصول على بسمتها ورضاها، طعنتها في صميم القلب جعلته يضرب عن الحب، عن النساء، عن فكرة الزواج لفترة طويلة، حتى فاجئته تلك الحمقاء، في لحظة لا يعرفها، هل كانت لحظة قدرية ليفتح قلبه أم عبثية؟ ببسمة طفولية وعيون لا يدري هي سوداء أم بنية أم عسلية!!

تمت.

الخميس، 27 يونيو 2019

قدرية .... عبثية

في الموعد المحدد تسير بتؤدة إلى المكان المتفق عليه، دائمًا ما تخونها المواعيد، دائمًا ما تتأخر وينتظر، دائمًا ما ترسل له اعتذارا متعجلًا لا يخلو من رقة، رقة لا تكشف عن رقتها، وعذوبة لا تجعله يطمع بها، وتحفظًا لا يجعله يتخلى عنها!

في كل مرة ينتظر، يتابعها بعينيه ويتظاهر بالانشغال، تعتذر فلا يخفف عنها حرجها ولا يدع الحرج يتمكن منها! تلك المداعبات الرزينة، التي تجعلها تبتسم أو حتى تضحك، مع تحفظ واضح من الطرفين!

يا إلهي .... لم هي زاهية في كل مرة؟ ولماذا في كل مرة يراها يشعر كأنها المرة الأولى، يكتشف شيئًا لم يره المرة السابقة.... هل تزداد بهاءًا؟ هل تزداد بياضًا، أو لماذا وضاءة وجهها في كل مرة تخطف أنفاسه فيبدأ بالنحنحة أو افتعال السعال كي لا يشهق!
لسبب ما جمعتهما الدنيا، جمعت طريقين لم يكونا ليلتقيا، في لحظة قدرية تسبب الدنيا أسباب هشة، ودوافع واهية جدًا فقط كي يتقابلا ..... 

تتسع بسمته في كل مرة، وهو لا يدري، يقطب جبينه، يتظاهر بجدية لا تمنع خفة ظله التي تتقافز من عينيه، يميل تجاهها بهدوء، يعدل وضعية شيء قريب، بدقة، بحذر، كأنما يميل إلى فراشة يخشى أن تشعر به أو تهرب منه!
يبدآن العمل، يعرف ما عليه فعله، وتتبع هي كل التعليمات المتفق عليها، هي سعيدة، هي مبتهجة، هي فراشة تتقافز، وهو؟
هو دب، هو أسد، هو فيل، هو ملك الغابة، وسيد الأدغال، وصاحب الثلوج، يعرف كيف يضبط الجو حوله، وكأنه إله روماني يتحكم بالزمن والجاذبية، وهي؟ عبثية جدًا، قد تنظر فجأة في عينيه وتباغته بسؤال عجيب، وقد تظل طوال الوقت صامتة لا تتحرك لها شفة ولا يرمش لها جفن ..... 

في لغة الجسد يكشفون الكاذب والمخادع أنه يظل طوال المحادثة ناظر في عين المستمع، يتأكد من تصديقه لحكايته وواقعه المزيف، هو لا يرمش، هو يحاول تجميد وجهه، هو ينظر في عينيها مباشرة إذ يحادثها، هي ترمش كثيرًا لكنها تقتله دائمة ببسمة بلهاء أو ضحكة طفولية تقطع عليه حدته، فيبتسم، ويتوتر، ويتحرر من تحفظه فتدور عينه بالغرفة، ويقف واثبًا من أمامها وكأنها ستكشف كل ما في قلبه من خلال عينيه!

في كل مرة تفسد عليه خططه!

وفي كل مرة يظن أنه يقابل الشمس في مهدها، أو القمر في تمامه، أو إلهة من آلهة الجمال، فيفقد إيمانه بما سواها، ويمسك جواحه أن تطيع قلبه فينحني أمامها، ويتظاهر بالضخامة أمام نحول جسدها عبثًا ألا يضعف، وفي كل مرة تسير مودعة في عجلة من أمرها وقلبه كالطفل يعدو وراء فراشته في جزل وحزن، وهو كالرجل الواثق من نفسه يحول وجهه عنها بسكينة، ويترك لقلبه وداعها حتى الباب ... وما بعده!

ينظر للمساعد الذي يقف معه كاتمًا حنقه كاشفًا نظرات صاحبه ويدرك أن أمره فُضح ... يلملم بقايا ابتسامه الساذجة ويقول له بحنق مصطنع .... إنسانة مستهترة .... ليتني بهذا الفراغ وتلك العبثية ...

الجمعة، 21 يونيو 2019

كاتبة مصابة باضطراب القلق المرضي! .... (22)

الحب والأمل ..... كلاهما متشابهان .... أشياء لا منطقية تعطيك تفسيرًا منطقيًا لحياة لا تساوي جناح بعوضة!

كل تلك السعادة المشبوبة بالتفكير، لا شيء يفسد لهو المرء سوى الفكر!

أسير على خط رفيع، أستقيم يومًا وأسقط أيامًا أخرى، أخاف وأرتعب، وأدب الأرض في صباح عبثي بخطوات واثقة، من أين يأتي كل هذا لا أعرف!
في السابق، كنت أقول الأمل يجعلني أستيقظ كل صباح، أجتهد في القراءة، في الدراسة في العمل، أتعثر، من الممكن للإنسان أن يتعثر لكني لم أكن أعامل نفسي أني إنسان مسموح له أن يتعثر! أكتئب، أعاقب نفسي كثيرًا، لا أعطيها الفرصة لتصحح هذا الخطأ وتجتهد مرة أخرى ومن جديد!
في السابق، الحب يجعلني أنام، يجعلني أطير، يجعل كل مستحيل ممكن ووارد، يجعلني مثل فراشة تكتشف الحياة في أول ربيع لها في الحياة، لم تكن تعرف أنه آخر ربيع، لعلها كانت خائفة أن يكون آخر ربيع فأتاها الشتاء باكرًا تلك السنة، لكنه كان آخر ربيع!
الحب يجعل تلك الخطوات خفيفة وواثقة في ذات الوقت، يجمع المستحيلات تحت سقف واحد، يجعلني ضعيفة جدا أمام عينين اثنين، ويجعلني مثل التنين أمام أخريات، يجعلني واثقة جدًا من أنفاسك المنتظمة، ويجعلني ملتاعة إثر غيرة حمقاء لتصرفك الأحمق!

والأمل؟ يجعلني أومن بكل شيء ممكن ومستحيل، يجعلني واثقة من شكي القتّال، يجعلني أبحث عنك في الشوارع وأنا أعلم يقينًا أنك لست هنا، ويجعلني أتيقن أنك تأتيني رغم استحالة ورود الفكرة مع معطيات الواقع!

منذ أيام زارتني صديقة، نفس الصديقة التي زارتني منذ عامين، عندما كنت تنتظر تحت نافذتي المشرعة والأنوار الساطعة تنقل للفضاء كل هذا الصخب الذي يلف بيتنا عند الزيارات فقط، وقفت وحدك، وقفت هناك تنتظر رؤيتي وكنت أقف أنا كل ليلة ما عدا تلك الليلة أشكوك لكل شيء حولي، أسأل كل نجمة في سمائي الكاحلة ألم يشتاقني؟ ألا تشتهي خطواتك المسير إلينا؟ ألا تفتقد قدماك الطريق؟
شرفتي مفتوحة، الأنوار مزعجة، الستائر مشرعة، صخب وضوضاء، وذات الصديقة بالبيت، ذكرتني الأجواء، وأنت على جانب آخر من هذا العالم!

في اختبار أجرته لي الدكتورة منذ فترة، كانت أكثر الصفات السيئة التي أُنعت بها "غبية" كانت أكثر الكلمات التي أنعت بها نفسي.
أقولها لنفسي مرارًا وتكرارًا، أصبحت إذ ألاحظ بوادر أمل أو محبة، بواقي شوق وأطراف عتاب وعشم، وأشلاء حنين يجتمع أيامًا ليكون جارفًا ويبهت أيامًا ليكون كاللاشيء، أقول لنفسي غبية!

لكني تعلمت،

تعلمت الكثير بين الحب والأمل واليأس والرجاء والشوق والحزن وكسر الخاطر وتلاشي الأحلام ومرارة الحقيقة!

تعلمت أحيانًا أن أقبل مشاعري، هذا الفيض، هذا الحب الذي يذهب إليك سدىً ما عدت أنعت نفسي بالغبية لأجله، أدعه يفيض، وأستجيب له بحدود، أكتب عنك وأفرغ تلك المشاعر على الورق وعلى الملأ "كلماتنا في الحب تقتل حبنا إن الحروف تموت حين تقال"، أن أقبل كوني فشلت فيما اعتبرته ورأيته وسرى في قلبي "حب حياتي، ومعجزة الجنّيات التي انتظرتها طويلًا، والحلم الذي كنت أسير فيه حقيقةً" أن أقبل أني في وقت ما لم أكن مثلما كان يجب أن أكون، مثلما اعتدتني  وكتبت لي، وكتبت عني، وأن أقبل مشاعر رفضك المتأخرة كلها، وأن أرفضك أنا حقًا، أرفض رفضك، وأرفض الاقتراب منك!

أنا امرأة تكتب، امرأة شاخت فوق الورق، امرأة ما زالت تنام وهي تحتضن رواية، أخلق الأشخاص وأغير الحبكة في رأسي، وهكذا غيرت نهاية قصتنا مرارا، ورسمت لك طرقًا كثيرة كي نعود، ورسمت لك خططا كثيرة وحبكات أخرى، ورسمت لنفسي قصة حب أجمل من هذه، وأقاوم الآن مشاعر " ماهو مش بالساهل ننسى عشان مكنش بالساهل أصلا نتلاقى ونحب" إلى مشاعر تحتاج لنهر أكثر استقرارًا، تحتاج لإنسان يقبلني مثلما أنا، يقبلني هو ويبصق فوق تقاليد المجتمع، يقبلني أنا بشحمي ولحمي وطول لساني وجنون منطقي وتقلباتي وغبائي وعصبيتي وخوفي وفزعي وكوابيس نهاري وتخاريف ليلي، يقبلني إذا أصحو نشيطة مثل عصفور يهم بلثم جميع الزهور قبل أن تحضنهم الشمس، أتراقص على الموسيقى بين المطبخ لتحضير فطور شهي وبين الحاسوب والورق والكتب لمذاكرة شيء، أو ترتيب أفكار أو تعلّم جديد ورائحة القهوة تملأ المكان، أتنقل من هنا لهناك أرتب الأشياء بدقة وأزيل التراب، وأعد طعامًا آخر، وأفتح النوافذ عن آخرها، وأرقص وأدور وأضحك هكذا بلا سبب سوى أني سعيدة جدًا اليوم! فيأخذني للغداء بالخارج أو العشاء، يهديني الورد، ويمدح عطري النفاذ، ونعود سعيدين بالحياة كأنها صارت كما يجب أن تكون، ويحتمل أن أصحو مصابة بمغص لإني لم أنهي عملًا كان يجب أن أنهيه في المساء لكني عدت منهكة من العمل، أصرخ أني أريد تحضير ألف شيء ولا وأعرف من أين أبدأ، أن يحتمل خمسين اتصال باليوم، أصرخ فيهم أو أبكي أو أمزح بطريقة بذيئة، وأن يحتمل ألا أجيب أي اتصال منه لإني لا أريد أن أكلمه ولا أن أكلم أحدًا!! أن يحتمل صباحاتي التي أكون فيها ملاكه، أهمس له بحب عطف شديدين بكلام عذب وجميل، وأن يحتمل ألا أجيبه على كلمة صباح الخير!!! فإن فعلت يأتيني هو، يضمني، يقبلني، لا يأخذ الأمر على محمل شخصي، يدعني أجري حول نفسي، ويحضر لي القهوة! وهو يعلم يقينًا أن عدم كلامي معه لإرهاق أصابني، أو منام أزعجني، أو تفكير يأخذني مني، لا جفوة عنه، ولا ابتعاد عن خط المودة مقدار أنملة! أن يقرأ وجهي وصوتي وصمتي! أنت قرأت كل شيء، انت قرأت روحي على البعد، لكنك لم تواجه نفسك، ولا المجتمع، ولا أنا، ولا تلك الأفكار المعلقة على جدارك.
وأنا؟ مثل قدر هائل من البشر يسكن جسدًا واحدًا، لا أعرف مسبقًا أيهم يحكم اليوم، ولا أعرف حقًا أيهم يحكم غدا، رغم أنهم جميعا يعرفون أني أحبك .... كنت ... كنت أحبك! الآن أحاول أن أحبهم، أكثر!

الاثنين، 10 يونيو 2019

كاتبة مصابة باضطراب القلق المرضي! .... (21)

عندما أضطرب، كنت في السابق أمتنع عن الطعام، فكل طعام آكله يسبب لي المغص الشديد، ونوبات من الإسهال القاتل كأني أكلت شيئًا فاسدًا، وتستمر النوبة لساعات وربما لأيام!

في وقت لاحق كنت آكل كثيرًا، أكل الكثير من الحلوى، أنا لست فتاة حلوى، ولا أشتهي السكر كثيرًا لكني أحب الطعام، كنت آكل كل شيء، كنت آكل كل مالا يفيدني، سمنت كثيرًا، زاد وزني لأكثر من اثني عشر كيلو جرامًا، كنت أجد صعوبة في ممارسة التمارين، أو حتى الانتظام على حمية غذائية!

أضطرب، فآكل كل شيء أمامي، الأخضر واليابس، الكتب والموسيقى والألوان وكل شيء، آكل البشر أحيانًا، أقيم لهم مقابر دائمة تحت سريري، وأدفنهم للأبد في ركن بارد مظلم، ولا أنبش أي قبر إذ أسويه بالأرض!

أضطرب كثيرًا، فأفقد ذاكرتي، وأكتشف نفسي من جديد، ليس كل اضطراب هو قدر سيء!

أنا مضطربة، أنا قلقة، أنا مريضة اكتئاب، أنا حزينة، أفقد إيماني كثيرًا، منذ عامين كنت أخرج إلى صحراء وأصرخ هل تسمعني يا الله؟ هل أنت هناك؟ هل يروقك المنظر؟ هل تمد لي يدك؟ لماذا تفعل بي هكذا؟

كنت أبكي، كنت أقنط، كنت أجزع، كنت أريد الخلاص من كل شيء! من حياتي أول الأشياء، كنت أريد الخلاص مما بعد الحياة، لا أريد شيئًا من إيماني، ولا من كفري!

كنت أواجه نوبات القلق الحادة من ثلاث سنوات، لما يقارب تلك المدة كانت نوبات القلق أكثر وأسرع وأشد فتكًا من نوبات الاكتئاب، كنت في هذا الوقت أعرف نوبات اكتئابي، أرصدها، أشعر بها، اتعامل معها، أتخطاها، لكني كنت جبانة بما يكفي ألا أشاركها أحد!

أقول الآن لصديقتي، لو أني بذات الوعي بنفسي منذ سنوات كنت شاركت نوبات ضعفي مع من أحب، كنت طلبت المساعدة، كنت ارتميت في حضن صادق أختبيء فيه عن النوبة، وكنت أرص حولي الورق والألوان، وكنت أعتذر مسبقًا عن عزلتي ووحدتي ورغبتي في الاختفاء وربما الموت، كنت لأعرف كيف أن النوبات تمر أسهل مع المحبين الصادقين!

نوبات القلق شرسة، بلا رحمة، هل قلت يومًا أن القلق وحش؟ إن كان للوحش قلب فإن وحش القلق لا قلب له! 
القلق كان يأكل رغبتي وذاكرتي، يسحقني، أقرأ ولا أتذكر ما قرأت، أسير في الشوارع وأنسى من أنا وأين طريقي، أقابل زميلي في العمل والذي عملت معه لسنوات طويلة وأنسى اسمه، أنسى اسمه تماما، نتشارك في عمل فأحتاج أن أناديه، أقول لو سمحت يا أستاذ! بعد اذنك، وقفت لحظة نسيت فيها أني نسيت اسمه وقلت لو سمحت يا .... يا .... نظر لي شذرا، أعطاني الورق، هل ظن أني أسخر منه؟ لم يعد يلقي علي تحية الصباح، ولم يعد يبتسم في وجهي إن تلاقت الأعين!

وحده الحب يجعل للأشياء قلب، يجعل للقتال معنى، يجعل للأمل لمعة، كنت في كل اضطراباتي وسخطي، أعرف أن الله يرى، هو يحبني، أشعر بذلك في قلبي، أنا أحبه، هو يعلم ذلك قبلي، أنا عاصية طوال الوقت، لم أكن يومًا راضية عن نفسي، إيماني ملحد، أقول دومًا أن قلبي صوفيٌّ وعقلي ملحد!
الله وحده يقبلني على ذلك! أصرخ بالليل ساخطة، لأجد في الصباح بسمات الصغار تحاوطني!

جوناثان، طفل في السابعة، كل صباح يلف ذاعيه حول رقبتي، إن لم أنحن له فحول رجلي، وعندما ارتفع طوله كان يحضن خصري، قصير وخفيف الظل ولطيف، كان هذا لطف الله!
العام التالي، وردتي كما أسميتها، عائشة، سمراء، عيونها سوداء، بسمتها تشرح القلب الحزين، وكان قلبي حزين، وكانت بسمتها مهجة!
كتبت لها يومًا أنت جميلة مثل الوردة، ابتسمت، دمعت عيناها، ارتمت في حضني، كل يوم تضمني في حضنها، أنا الصغيرة التي تحتاج تلك الرحمات يا وردتي! كانت تقول لي: عندما أراكِ أطمئنّ! وأنا التي كانت تطمئن!

مجموعة أخرى، يعلمونني ألا أقسو على نفسي، بعد فترة من العمل قلت لهم، لم تيأسوا مني!!!! وأنا كنت يائسة من كل شيء!
تدربت معهم على ضبط النفس، كنت أنسى كثيرًا، وكانوا عونًا كبيرًا، كنت أضطرب، وكانوا يطمئنونني، كنت أخشى طوال الوقت أن أخيفهم، كانت عيونهم طيبة، كنت أهدأ، عندما علا صوتي، عندما أزعجني أمر بسيط، اعتذرت لهم، كنت صادقة في اعتذاري، كانوا صادقين في القبول!

كل يوم يمر بشكل جديد، شهور قد تتشابه، وأيام قد لا تتكرر!

أضطرب كل يوم، لكني كنت أريد فهم اضطرابي، كنت أريد مساعدة نفسي، أحب الحياة، أو هكذا كنت من قبل، وأريد أن أستعيد هذا الحب ثانية!

الله ..... يمد لي يده كل يوم، عندما أراها وعندما لا أراها ولا ألتفت لها!

أكتب، وسأكتب، وسأمتنع لفترات أخرى عن الكتابة، سأخطو ببطء نحو الحياة، لكني لن أخطو للوراء ثانية!

سأتعثر، وأرتكب الأخطاء كل يوم، ويثقل كاهلي بالإثم، سوف أكون سببًا في اضطراب أحدهم، وسوف أهب أحدًا آخر كل الأمان والحب، سأفعل ما بوسعي كل يوم لأسير في الطريق الصحيح، وستفترق بي الطرق حتى أجده ويجدني، الطريق ينادي صاحبه ....

سأشرب القهوة، وأصبحت أعرف لكثرة فترات المرض كيف أعالج معدتي بدون الطبيب، سوف أسعل كثيرًا بسعال عصبي لا حل له إلا الهدوء، سوف أشرب الأعشاب التي لم أكن أطيقها، ولكني اعتدت الآن طعمها وأحببت تأثيرها على صدري،وإن اضطربت بي الطرق لسيجارة دخان سوف أدخنها وأسعل، أو سوف أختار مشروبًا طازجًا بدلا عنها! 

سأترك لاكتئاباتي الوسادة خالية وجاهزة، وسآخذ قلقي من يده بعيدًا عن تلك الخطط البسيطة، وأفزع وأبكي وأصرخ وأتشاجر وأفتعل المشكلات، وأحافظ عن الاعتذار، ودائرة ضيقة جدا من الصادقين لا أريد سواهم ولن أتمسك بهم إن قرروا الرحيل!

لم أقل يومًا أني قوية، لا أحد أقوى من الكون، أنا ضعيفة، أنا نبتة خضراء، أنا برعم طري، إما أن تداعب الريح شعري، أو أنتصب بالقوة المصطنعة أمامها فتخلعني، وأنا؟ آخذ الريح كأنه النسيم في حضني وأطير! 

كل يوم هو فرصة لنوبة قلق واضطراب، كل يوم فرصة للمرور بلا خسائر، وكل يوم هو فرصة ولو ضعيفة لأن يمر بنسيم هاديء وعبير وردة!


** بحبني وأنا متفائلة والله كنت هقطع شراييني من يومين :D  مجنونة!