الخميس، 23 أبريل 2020

امرأة بلا طريق هي أسوأ أحلامك!

أنت لطيف حيث لا تعرفني، تدعي أنك تعرفني، أنك تراني وتقرأني!
كيف وأنا في تلك الحال لا أعرف نفسي!

أقترب وأبتعد، أهمش كل الحيوات حولي، أهمش كل الأحياء، كل من له لسان ناطق وعقل قد يؤذيني!

جبانة؟ نعم، ولم لا، أليس من حقي أن أحمي نفسي؟ أن أحتمي ولو خلف جدار غضبي الهش؟
غبية؟ أضيع أفضل الفرص؟ يتسرب عمري من بين أصابعي؟ أعرف، تلك النظرات التي ألام عليها بلا سبب لا أعرف كيف أوقفها؟ لا أعرف كي أسعد أمي بحفيد، وأطمئن قلب أبي برجل! لماذا لا يطمئن قلب أبي بي؟ وحدي؟ ولماذا لا تسعد أمي بحفيد من إخوتي؟ لماذا أنا؟
لأني الكبرى؟ لأني الفتاة؟ لم أكن ولن أكون المفضلة يومًا، لا تخدعني!

أنت لطيف، شبح حزن في عينيك يعطيك وقارًا غير مسبوق، وشبح طيبة طيب، شيء يجعل عينيك أجمل، ويجعل قلبي أشقى!
لست أنا! أنا لست بهذا اللطف الذي تحسبه، ولست بذاك المرح الذي تراه، وتلك الضحكة التي تهز المكتب ليست ضحكتي، وتلك الألوان الساحرة التي يشرق عليها يومك ليست حقيقية، وتلك الزينة المرسومة على عيني كلها محاولات بائسة لإصلاح الدهر نفسه وليس فقط ما أفسده!
أنا لست تعيسة، لكني لست فرحتك المنتظرة، ولا بسمتك الطيبة! أتمنى لو كنت، وأتمنى لو حظيت بطيب طيبتك، لكني غابة محترقة، وحلم مريع، وزهرة يحيطها الشوك وليس يجعلها أفضل الزهور وأغلى المراد صدقني!

ليتني أقابلني من جديد، ليتني أعرف طريقي مثلما كانت تلك المراهقة الصغيرة تعرفه، تكشر في وجه الرعاع من البشر، تعرف كيف تلكمهم وتسدد الضربات بلا هزيمة، تعرف كيف تبارز، وكيف تهجم وكيف تدافع ومتى تنسحب، كانت تفعل ذلك بسلاسة، لم تكن تقود حربًا ولا تترصد الأعداء، لم تكن تعادي أحدا، لكنها كانت تسير بقلبها في الخلق، في الملكوت، كانت تغامر، وتقامر وتراهن، يصح قولها يومًا فتبتسم، وتصاب بخيبة صغيرة فتقول لنفسها لا بأس، كانت تتسلق الشجرة الجاثية أمام منزلها منذ أكثر من ثلاثين سنة، كانت تتخيل بيتًا فوق شجرة، وجزيرة بعيدة برمال ناعمة بيضاء، تطل على شاطيء وحيد لكنه آنس بالأشجار والطيور، كانت تصادق شجرة البونسيانا، تقول لها صباحًا تمنِّ لي يوما طيبا، وتقول لها في الظهيرة مرحى كان يومي جميلا بحق!
كانت تراقب ابن الجيران من بعيد، ترى في عينيه الطيبة التي تراها في عينك ولكن بلا حزن! وعندما رحلوا حافظت على عاداتي القديمة من كلامي مع النباتات! كتبت الشعر وتوهمت حلمًا لطيفًا، لكني لم أعلق هناك. مراهقة صغيرة تعرف كيف تحول كل شيء إلى أبيات شعر بسيط، وكيف ترص الكلمات في سطر برفق فيقولون كيف احترفت السحر في عمر صغير؟ فتاة لا ترضى أبدًا بأي نتيجة، ولا يعجبها الكمال، لا ترى الجميل وتنظر للأجمل، فلم تكن ترى نفسها، تذوب فيما تحب، وتغرق وسط الكتب والحكايا لساعات، تصادق المذياع، وتنصت لأغانٍ شرقية وغربية، حتى يخترق الحزن قلبها بطعنات مستمرة، فلم تكن تعبأ، صفحتها بيضاء يا عزيزي وذاكرة مخها فارغة تسمح بتخزين الكثير وعدم الاكتراث، الحياة أمامنا تبتسم لنا، من يصدق أن ذات المراهقة البيضاء الجريئة، التي تتلون بالأحمر سريعًا كالفراولة، تتحول لشابة تائهة ثم لامرأة بلا طريق معبّد؟ امرأة تسير وسط أشباح في مدينة يغلب عليها لون الرماد ورائحة السناد، امرأة لا تذكر آخر مرة روت فيها نباتاتها، ولا آخر عهدها بالنوم والأحلام؟ امرأة تعيش في واقع موازٍ، تقتل نفسها في العمل، وتدافع عن كل ما تبقى من شبح نفسها وكأنه معركتها الأخيرة! امرأة تضحك مجاملة، وترقص ألمًا ولا يريح قلبها سوى التعب، تسير لساعات وسط شوارع المدينة الغريبة، تلهث، تعرق، تتألم، وعندما يهدها التعب تجر قدميها للمنزل، تقف تحت ماء يغلي، يلهب جلدها، تخرج شبه عارية تلتمس الفراش لإن التعب أكلها وشرب! تقول في قلبها لعل الألم يغلب الفكر فأنام، فلا يغلب أحدهما الآخر بل يتصارعان، يغرق عقلها تارة، ويفيق، فإن غرق فللكابوس، وإن أفاق فللألم! 
أين تلك المراهقة، التي كانت تبتسم فتطاع، وتكشر فتهاب، وترق فيذوب الحديد لها! تعرف من أين جاءت وأين تسير وإلامَ ترمي!
كم مرة يتوجب علي أن أنعت نفسي بتلك النعوتات السخيفة التي أكرهها لكنها أقرب ما يكون للواقع؟ انا يا عزيزي امرأة خربة، وأنت رجل في عينيه يطل حشيش أخضر وعشب نضر وحياة غضة! حزن يمسح عينيك برفق لكنه ليس الخراب، لقد عاشرت الخراب وحفظته وألفته وعرفت كيف يبدو في العيون! لقد تشابهت أشباحنا فصار الخراب يعرفني إذ أجيء ويختار، إما أن يفتح لي أبواب كوابيس ضحاياه أو يلمح لي من بعيد أنه لا فائدة!!! هل تصدق أن أحدًا يصادق الخراب؟

الخراب يا عزيزي صادقني!
ولا أعرف السبب، ولا أذكر متى حدث ذلك، كنت أبحث عن رفيق، كنت أحتفظ .. لا ليست أنا ... هي ... تلك البضة الشهية اللذيذة التي تشبه حلوى العيد يوم العيد، كانت تحتفظ بأشياءها في أماكنها، كانت تحفظ عينيه وشكله، كانت تعرفه، كانت تعرف رائحته، قابلته، قابلت شبحه، قابلت إنسانًا أو ضربا من الجان والجنون، لا أنا ولا هي نعرف من قابلت! لمست وجهه وكان ذات الوجه، ذات صوان الأذن، ذات الرقبة، ذات الهالة، ذات الأمن الذي تعرفه منذ سنوات قبل أن تلقاه! ثم كان هذا أعنف كوابيسها الذي لا استيقاظ منه، لقد رأته في الواقع، كيف نفيق من الواقع؟ وكيف ننام؟ 
كانت لديها جزيرة، برمال ناعمة بيضاء، وكهف صغير من الرمال والحجر الأبيض، كانت هناك وحدها وتظل وحدها، أدخلته الكهف، هو وحده على وجه الأرض من دخل الكهف، أشعل الخراب في كهفها الوحيد وذهب، أين يهرب المرء عندما يفقد منزله؟ وملجأه وسكونه وحتى الشارع الذي اعتاده؟ أين يذهب المرء حين يحتل الخراب روحه التي تلازمه؟ أين يهرب؟ أين يسترجي الشمس كي تطل من جديد على فؤاده الحزين، الحزين جدا، الحزين بعمق لا آخر له؟ أين يجد شربة الماء الرويّة؟ وأين يجد لقمة مشبعة؟ وأين يجد فراشًا لا ينقضّ؟ ومضجعًا آمنًا؟ عندما يتوحد مع الذي يجب أن يهرب منه؟ ماذا عندما تفسد روحه، وتخرب نفسه؟ أين يهرب المرء منه؟
تلك المرأة تحزم حقائبها وتسافر، تبدل الناس بالناس، تحرم نفسها الطعام وتصاب بالنهم، تهيم على كل شاكلة ولون، تبغي راحة الطفل في حضن أمه، وحتى حضن أمي صار يسبقني الخراب إليه فيقضه علي!

عزيزي الغريب الذي لا يعرفني، والذي يزعجني الحزن في عينيه يتلصص الفرح الزائف في عيني، امرأة مثلي هي الكابوس، امرأة بلا طريق هي أسوأ أحلامك لا أجملها، امرأة بكل هذا الخراب .... خراب!