السبت، 28 سبتمبر 2019

في الغربة

أكملت شهرًا كاملًا في الغربة، في شقة صغيرة لكنها تكفيني، سريري مرتب لكنه ليس دافئا مثل سريري، كنت أظن أني تركت الكوابيس خلفي، لكنها هنا لا تأتي في صورة أحلام تقض مضجعي، هنا تسحب النوم في هدوء من عينيك مثل لص محترف!

كنت وحيدة قبل سفري، كنت أعرف كم أنا وحدي، كان صوت أمي فقط في الفراغ، رغم نزاعاتنا المستمرة لكني أعرف أنها تحبني، على الأقل لا تكرهني، في حياة البالغين القاسية لا أستفيد كثيرًا من كلام أمي، أمي طيبة لا تعرف هذا الوجه القاسي من العالم، كنت أسندها بقوة عندما تكشفت لها أنياب الحياة في شهورها الأخيرة بالعمل قبل التقاعد، وعندما سقطت أقنعة بعض المحببين لها، كانت تصدم لكني كنت أرى المشهد من بعيد، أحضنها وأقول لها لا بأس، تقول لي أنها كانت مغفلة، أنها تشعر بالغباء لأنها لم تر هذا مسبقًا، أخفف عليها، أقول لها تصدر قلبك المشهد، تعاملت بطيبتك وأصلك الكريم، أهديء من رعونة شبابي التي كانت تضعها سابقًا أمام الحقائق وتقول لها أنتي تغمضين عينك وتستعمين!

في ليلة محددة، تدرك أن العالم سقط فجأة، أن كل أمل في قيامه اضمحل، نكزات المقاومة الأخيرة لضحية مذبوحة تهدأ، تكف عن خبط الأرض بقدمك، تتكور بهدور في ركن مظلم وبادر، تحضن نفسك وتبكي بخزي وهزيمة، تستسلم غير مصدق لما يحدث، لكنك تستسلم، ليس خيارًا، في ليلة رحيلك، في قولك أن البعد حل، أن كل شيء ينتهي هنا، أن فصلًا جديدًا في الحياة يجب أن يبدأ!

كنت أعرف أني وحيدة منذ قرأت في صوتك التخلي، وفي خطواتك البعد، لكني كنت أتسلى بأمل عندما قتلته لم أجد ما أتسلى به سوى مزيد من الألم، أو الانفصال عنه!
كنت غريبة، كنت أنت من يربطني بهذا العالم، أريح رأسي المتعب بالأفكار على صدرك، تريح ذقنك الحاني على رأسي وتبتسم، كنت أعرف أنك تبتسم، كنت تهدأ، كنتُ أهدأ، كنا نأخذ إجازة لحظية من العالم قبل أن يبدأ الصخب من جديد.

كل يوم أقاوم خوفي، المجهول، الطرق الطويلة، السرعة الزائدة، السباحة، البحر، الملح، الغرق، المرض، الألم، الأماكن المرتفعة، التحدث للغرباء، الابتسامة لعابر، أو الجلوس بالقرب من أحد ليس أنت!

بقوة جمعت ما أحتاج، حملت معي المانجو، كأني أحمل رائحة البيت، أفتح البراد فأشم رائحته، أنتشي، أتذكر أمي، أتذكر بيتنا الصغير الذي تسري فيه ضحكات بسيطة لطرفة قالها والدي، أتخلى عن هلعي أن يصيبهم مكروه بغربتي، أصلي كثيرًا، أقدم طلب الوظيفة مرة، يرفضون، لا أقاوم، لا أعيد الطلب، أقول بشكل روتيني إذا جدت فرصة أعلموني، تجد الفرصة، يعلموني، يطلبون المزيد من الأوراق، يقبلون بي، يدب الخوف في قلبي، هل هذا ما أريد؟
لشهور كنت أكمل رحلة بحثي عن دراسة في آخر العالم، قريب من نهاية عالمك لكنه مايزال على الحدود الأخيرة لعالمك الجديد، أخطيء في المراسلة، خطأ لم أعيه إلا بعدها بشهور طويلة، ترفضني الجامعة لتخصصي الذي كتبته بصورة خاطئة بالأساس .... أراسل آخرين، تتزاحم المواعيد والطلبات، تنصحني دكتورة، وتوجهني أخرى، يمر الوقت، يغلق باب التقديم، وانتظر مرور تلك الأشهر حتى تبدأ المنحة بفتح أبوابها من جديد، يقبلون بي في العمل! 

هل أنت متأكدة؟ لا
يسألني مستشار في العلاقات والتنمية ... هل أنت واثقة؟
لأ
صليت ودعيت لأني غير واثقة
تقول لي صديقتي دومًا أنت تهربين!
أقول لله يارب لو تعلم لي طاقة أبقني هنا، لو تعلم لي خير هناك يسر لي هناك!

ويسر لي هناك ...

في النهار أتشاغل، وفي الليل أمسك دموعي، أكبت شوقي لمحب، لحضن دافيء يلملم شتات قلبي ويجمعه، أمسك هاتفي الذي لا يرن إلا لمشاكل العمل، ولا أسمع فيه أي صوت إلا زملاء العمل المملين جدًا، ورئيسي في العمل الأخرق الذي يشكوا من أسألتي الكثيرة كي أفهم نظام العمل ويرد ببلاهة لا أعرف! ثم يشكوني!
في الليل، أريد غرفتي هناك على الجانب الآخر من العالم، بعد البحر والصحراء والجبال والبلاد والبيوت والأشجار والناس والسحاب وكل شيء، أريد كوب القهوة وشباك غرفتي وشجرة البونسيانا، أريد زقزقة العصافير ورائحة الصباح، أريد سيارتي وجولاتي الليلية رغم وحدتها كانت ألطف، أريد سريري ومكتبتي، أريد الأريكة التي أنام عليها عندما يقاتلني الأرق على الراحة، تغطيني أمي وتتركني نائمة ...

في الغربة أشتري الفاكهة، وأبحث عن الخضروات المجمدة وأطبخها مثل أمي، أشتري التوابل التي كانت تستخدمها أمي، أشتري دجاجة كاملة صغيرة، أطبخها بطريقة أمي، أضيف القرفة للمرق والحبهان المطحون،  اشتريت أرزا أمريكيا يا أمي، سأبحث عن الأرز المصري في المرة القادمة، اللحم هنا لا يشبه لحم العجل في العيد، ولا النقانق شهية مثل رائحة الشوارع، ورأيت الكوسة يا أمي، وبالأمس كنت سأشتري القرنبيط لكني تذكرت كيف يعاني قولوني منذ أتيت ولا يهضم الطعام جيدًا فتنازلت عن الفكرة .... رأيت مانجو من مصر .... هرعت إليه أشمه لم تكن رائحته قوية كفاية لأدفع فيه تلك القروش التي تبقت معي ......

بالأمس يا أمي، دخلت مكتبة كبيرة لشراء ما يلزمني، الكتب كثيرة، والأدوات مرتبة، والألوان غالية جدا هنا يا أمي، لم أشتري الألوان، ولم أشتري كتابًا للتلوين، وذخبت لركن تطوير الذات أبحث عن كتاب يجعلني أتجاوز غباء رئيسي في العمل، لماذا لا يوجد كتاب يجعلني أتجاوز وحشة نفسي؟

كل أسبوع، أعد الأيام للعطلة ثم تأتي العطلة وتذهب بأسرع مما انتظرتها، تتركني وحدي في الغرفة، مسدلة الستائر لا صوت فيها إلا للرمادي والبيج!

اشتريت زرعة ظل يا أمي، أسميتها أنيسة كي تؤنس روحي، قبل أسبوع نسيتها لثلاثة أيام، لم أسقها في موعدها، غضبت مني وانزوت، لكني صالحتها، ثم في وسط الأسبوع نسيت أن أسقيها ....

في المكتبة يا أمي كنت أحبس دموعي، ماذا سيظن في الناس ان انفجرت باكية؟ طفل ينادي أمه يريها لعبة، الأم منشغلة بجمع الأغراض، الطفل يرفع صوته كي تجيب، تجيبه بكلمات مقتضبة، لكنات كثيرة أسمعها يا أمي ولغات لا أعرفها، لكني أتكلم بالصمت!
بالأمس يا أمي وجدت امرأة، لعلها في نفس سني، أجبرها العوز على ترك أهلها وطفليها، لا تتحدث الإنجليزية، تجلس منزوية حزينة عيونها حمراء، سألتها في خجل هل أنت بخير؟ تكلمت لغة لا أعرفها، لم أفهم، كنت أهز رأسي مثل الغبية في محاولة أن أفهم، أقول لها بيدي انت بخير؟ هزأت رأسها وفي وسط الكلام قالت ماما وأشارت نحو قلبها، تخبرني أن بأمها على في القلب، وأن لديها طفلان صغيران تركتهم مع أمها، وأنها لا تستطيع الذهاب لأمها التي في بلد بعيد، وأنها تعمل هنا، سألتها إن كانت هاتفت أمها؟ هزأت رأسها نعم ..... أعرف ألمها يا أمي ويوجع في صدري، حضنتها، قلت لها ستكون بخير، كانت الدموع تسابق رباطة جأشي، ابتسمت بتوتر وهربت، خرجت لمكان أبعد قليلا كي أبكي، حدثت نفسي أن أعود للسيدة وأعرض عليها أن تهاتف أمها؟ لكني كنت خائفة، من نفسي، من دموعي، من مبالغتي في الاهتمام بمجتمع له حدود وأدب ....

في العمل لا يبتسمون يا أمي، ولا يتبادلون تحية الصباح، قليل منهم يفعل، تعرفت على فتاة أيرلندية، بشوشة، ومجموعة أخرى من صديقاتها كن يعملن معًا، عندما أراهم أحييهم، يبتسمن، يسألنني وإن كان سؤالًا تقليديًا عن حالي لكنه طيب وسعيد، نتمى يومًا جيدًا لبعضنا أو عظلة جيدة!

الأطفال لطاف يا أمي، أحب أغلبهم، في الفصل مع تلاميذ مراهقين، كنت أخبرهم عن الجنسيات، وبدأت أكتب أسماء الدول التي ينتموت إليها، عندي توأم من الهند، أقول لهم أني أحب الطعام الهندي جدًا، وإن سافرت إلى الهند يومًا سأشتري الكثير من التوابل والملابس والحلي، قال لي الولد أمي عادت قريبًا من الهند ومعها الكثير من التوابل، سوف أحضر لك البعض الأسبوع القادم! أذهلني سرعة عرضه، وكرمه، لم أدرس هذا الولد سوى اثنا عشرة ساعة فقط! 

تشرق شمسي في الفصل يا أمي وتنطفيء طوال اليوم، أتمتم ببعض الكلمات العربية في المنتصف، كانوا يسألونني مع معنى هذا، وقفت يومًا وقلت لهم معاني الكلمات التي لا أستطيع التخلص منها .... أصبحوا يقولون معي نفس الكلمات ... ماشي؟ .. ماشي 

أنا لست خائفة يا أمي ...... أنا فقط وحيدة .... أنا أشتاق لحضن صادق أبكي فيه، قبل سفري كنت أعرف أنه لا أحد يحبني مثلما يدعي ..... كنت أعرف أن تلك البسمات زائفة جدا ... هل تعرفين يا أمي شعور امرأة تخلى عنها حبيبها الأصدق؟ أو ما ظنته أنه الأصدق؟
هل تعرفين يا أمي الخذلان المتتابع من الأقربين؟ لم أعد أصدق أحدًا، ولا أرتاح لأحد..... 
هل تعرفين يا أمي أني لست بخير، أني لا أتصل بك حتى لا تغلبني الدموع، وأني لا أسجل صوتا حتى لا تلمحين في صوتي الوحشة، وأني أريد أن أخبرك أني أريد حضنا فأخاف خوفك وبكاءك وهرمك ومرضك، وأنا لا أحتمل أن أسبب أي شيء لأي أحد وأنت فوق أي أحد ..... 

قاطعتِ كتابتي يا أمي برسالة تسألين إن كنتُ بخير؟ هكذا؟ بلا مقدمات .... أنا لست بخير يا أمي، ولست بهذا السوء الذي يرسمه قلبك فيرتعد ..... كنت غريبة هناك يا أمي في بلدي .... والآن فقط تزداد طبقة جديدة من الغربة سوف أعتادها بعد قليل لا تقلقي ...

الشيء الوحيد الذي لم أعتده بعد .... كيف لا أشتاق، ولا أحن، ولا أرنو لمن وافق قلبي وهدأت له روحي وصاحبني على الصحة والمرض .... ثم كأن شيئا لم يكن! لم نعد غريبين بفرصة لقاء ... ولم نعد حبيبين تجمعهم ولو كلمة على البعد ... ولم نعد أي شيء سوى اثنين تخلى كل منهم عن روحه!

يعلم الله يا أمي أني وقفت بالباب طويلًا .... أنتي انتظرت طويلًا ..... وأني تغربت الآن عندما رأيته يضع القفل على بابي الذي أدخل منه قلبه!