الجمعة، 17 مايو 2019

كاتبة مصابة باضطراب القلق المرضي! .... (18)

تعلمت خلال الشهور الماضية، من القراءة عن المرض، من المعالجة، من شركاء هذا الدرب المظلم، من نصائح شيخي، من خبرات بعض القلة المقربة، أن الخوف يدمر كل شيء، أن الخوف هو المرض الذي يجب التخلص منه، أن كل تلك النوبات لم تكن لتحدث لولا أني سمحت للخوف بالحدوث!

الألم شعور واهم، يتكون في العقل، إذا سيطرت عليه بعقلك، إذا شتت انتباهك لأمور فرعية، سوف يتلاشي، الأعضاء حقيقة لا تشعر وإنما عقلك هو الذي يترجم هذا، وإلا فبم تفسر عدم الشعور بالألم في النوم العميق؟ وفي الغيبوبة العقلية مثلا؟


أن تحزم حقائبك لإجازة، أمر ممتع، ولكن أن تحزمها للهجرة؟ للسفر بعيدًا، أن تقف امام خزانتك تختار ملا تضعه في حقيبتك ليلازمك في الرحلة وما تحمله عنها؟ هل تأخذ جزءًا معك من رائحة الوطن؟ أم أنك هارب منه فتتركه جملة خلفك؟ تأخذ ذكرى لطيفة من حب هجرك، أو كان لا شيء أو أي شيء سوى أنه حب؟ أو تأخذ مسحة منه على قلبك مخطوطة على ورق اصفر معك؟ 
أنت حين تهرب من وطنك تريد أن تهرب من كل شيء، من الماضي أول الأشياء، من كل ما تعلق به الوجع وحدث بينهما ارتباط شرطي، أن تهرب من دفاترك القديمة وتشتري واحدًا جديدًا على أمل الكتابة السعيدة والحياة الرغدة والمغامرة الجديدة، أن تهرب من تلك الأثواب التي التصقت بها روائح أحضانهم، ومن هذا المظهر الذي يذكرك بشخصك القديم، شخصك الضعيف الخاضع لإذلال المحبة، شخصك الذي يحفظ الطرق القديمة والدروب عن ظهر قلب.
تغير عطرك، عطرك الذي مدحوه يومًا، الذي يذكرك بهياج عبيرهم، تغير شعرك، وتغير ملامح وجهك ان استطعت، وكل هذا لعله وجه الألم يتغير!
أي شيء تحزمه من أغراضك القديمة؟ الكتاب؟ صديقك العتيد؟ أي كتاب تختار وأي واحد تترك خلفك!
أي شيء تنقله معك إلى بيتك الجديد؟ وإلى موطنك الآخر؟ كتبك ... أطفالك الصغار، يبكون الهجر إن تركتهم، ووزن حقائبك محدود، وذكرياتك ثقيلة، وخوفك أثقل!

أن تهجر ..... أن تهاجر ..... أن تدع ..... أن تترك خلفك .... أن تستمر بالمسير .... من المعروف الذي أوجعك ...... إلى المجهول الذي ينتظرك ...... أين وجه الله؟ ...... ثم وجه الله!

الخميس، 9 مايو 2019

كاتبة مصابة باضطراب القلق المرضي! .... (17)

التقينا منذ أسبوعين لأول مرة، عمل يجمعنا، بسمة عريضة ترتسم، قلب يرتجف، أعرف هذه البسمة جيدًا، هل ستطاردني الأشباح كثيرًا؟

التقينا اليوم للمرة الثانية، بسمة تقابلني، عريضة كالعادة، كلمات ساخرة تترامي على مسامعي، أعرف تلك النبرة في السخرية، تلك الأشباح تصر على مطاردتي!

اعتراض بسيط، رد هاديء، أسلوب مهذب دافيء، وبسمة عريضة، أشباح تشبهك تطارد نهاري بعدما أقضت ليلي!
أيكما الأصل وأيكما الخدعة؟ وما الذي أصابني؟ وما الذي أفعله هنا؟ وهناك؟

لأسبوعين أتجاهل كل أشباحك، تلك المنامات التي لا يكون لك أي سياق بها ولكنك تظهر، هذا الحزن البادي في كل أحلامي، تلك المجنونة الحنون التي يسوقها قلبها إليك في كل مرة حبيسة الآن في إحدى غرف عقلي الحصينة، لا يجرها قلبها إليك فتراسلك تسأل لم أنت حزين يا حبيب أيامي؟  عقل منشغل بأشياء كثيرة غيرك وإن لم ينشغل يذهب في النوم أو الكتابة، يفرغك أول بأول على الورق " كلماتنا في الحب تقتل حبنا إن الحروف تموت حين تقال " حتى لا يبقى أي شيء منك يشكل دافع صغير ثم محرك كبير يتحكم في تلك التصرفات الحمقاء التي كانت تصدر عني، تلك التصرفات الطيبة والحنون والطفولية والمهتمة، تلك التصرفات التي أخرج نتيجتها مكسورة الخاطر ومعدومة الكرامة ومسلوبة الاحترام! أن تكون طيبًا شيء جميل، ولكن أن تكون أحمقًا؟ لا أعتقد أنك كنت لترضى لنفسك ذلك وإلا لبقيت ولم ترحل ولم تغلق ألف باب بوجهي عندما أدرت وجهي عنك ليس صدودًا ولكن خوفًا وذعرًا واضطرابًا وقلقًا وأشياء أخر!

بسمته العريضة، تنقصها لمعة عينيك عندما تراني، عيناه تلمعان، ولكن قلبي الحزين كان يحبك أنت بحماقاتك!
بسمته عريضة، ورغم كامل الارتياح الساري في كل جسمي عند رؤية بسمتك فإن صوته هاديء ومريح!

مضطرة لهذا العمل وتلك الشراكة المؤقتة، والضيقة جدًا، لولا أني أحتاج تلك الشراكة لضيق وقتي لكنت هربت، أطلقت ساقاي للريح وهربت، لكنت هربت جريًا على قدميّ، وكنت صرخت لنهاية الطريق، شبح شبح، بسمة عريضة وصوت هاديء، شبح شبح، سخرية لطيفة وعمل منظم منضبط، شبح شبح، كلمات تتقاطع وتتشابه مع أسلوب كلامك، شبح شبح، عفريت جديد يطارد صباحاتي ونهاري، أشباح كثيرة تطارد ليلي ومناماتي، وأطياف تأتيني على أي وضع لا يهمها ولا يشغلها إن كنت مسرعة على الطريق أو كنت مستلقية على الأريكة، تأتيني بقشعريرة الأشباح في جسدي، أنتفض، ويكأن أنفاس تقترب من وجهي، ويكأن رائحة أحدهم تسري بالمكان، أهرب، بداخل عقلي أهرب، أجري كثيرًا، بقدر ما أريد الاقتراب بقدر ما زهدت فيه وفيك وفي الحب وفي كل شيء!

بسمة عريضة تطاردني وتعجبني، أفتقدها، أفتقد تلك اللمعات الجميلة التي كانت تضيء ليالينا سويًا، بسمة عريضة، أقسم أنها لم تكن تظر إلا لي، بسمة عريضة، أقسم أنها كانت تشع بنور رقيق ثغر وضّاء ومحيًّا يعرفني ولا يتهلل هكذا إلا لي!
بسمة عريضة بلا لمعات، وبلا روابط، تخلعني من الهروب وتضعني أحيانأ في الهلع، وأحيانًا أجعلها تحدٍّ جديد ويكأني أواجهك أنت، فأبتسم بأريحية شديدة لأني لا أعرفه، وصرت لا أعرفك! أو أقطب جبيني بأريحية أيضًا وكأنه تمرين مريح كيف لي أن أقاوم بسمات عريضة جذابة مثل تلك!

ثم، لماذا أشبه بسمته بك؟ وببسمتك؟ لماذا لا يكون هو، بسمته هو، وكلماته هو، وطرفاته هو؟ وخفة ظله هو التي تملأ المكان مرحًا رصينًا؟ ولماذا لا يكون مزيجه الخاص؟ بين بسمة جميلة وعقل واعٍ رزين، وكلمات لطيفة مسلية؟

لماذا قد تكون أنت موضع تشابه أو تنافر؟ ولماذا أنت هنا؟ والعالم لم يعد عالمك ولا الكون صار يدور في فلكك؟
الكون يدور في فلك خالقه، وعالمي البسيط يدور حولي وأدور معه، والحب الذي أهرب منه بسببك قد يأتي من بعدك مثلما أتى معك!
القلب سيشفى، في وقت ما سيشفى، أمَا لو كنت مقدَّرًا؟ الله قادر أن يشفي كل تلك الندوب، لآجلي لا لأجلك ....
يعلم الله سريرة كل عبدٍ

الأربعاء، 8 مايو 2019

كاتبة مصابة باضطراب القلق المرضي! .... (16)

أنا خائفة!

لطالما كنت كذلك، ولطالما أشعر بذلك

منذ سنوات عدة حاولت أن أجبر نفسي على الخوف، أقصد على مواجهة الخوف، أخاف من المرتفعات فأجبرت نفسي على تسلق مأذنة تعدّ من أعلى مآذن القاهرة، مأذنة قديمة، تسلقتها حتى وصلت إلى الهلال النحاسي، أجبر نفسي على النظر لآسفل، ثم يهتز بي الحامل المعدني، قلبي يرتجف وأنا؟ عقلي عنيد!
أبحث عن خوفي وأواجهه، حتى قابلته، تجمع كل خوفي إلى كينونة صغيرة، إلى نقطة خوف واحدة، إلى رعب، إلى هلع، أن يرحل، أن يتركني هنا وحدي، أن يحدث له أي مكروه بسببي، كنت أخاف بشدة، أتركه وأمشي، خطوات بسيطة، قلبي لا يقو على الرحيل، كيف نرحل ممن استوطن الروح وسكن الفؤاد وصار له السؤدد؟ أم كيف نرحل ممن تشابه مع أرواحنا وصار نَفَسًا ونبضًا وقلبًا ينشر الحياة في تلك الشرايين الميْتة؟ الربيع أتى ريثما أتى! والشمس لم تخجل بعد إلا من بسمته، والجو عبير بأنفاسه الدافئة، وهدوء عينيه يُسكن كل عواصف عقلي المتعب، ويهدهد زمجرة قلبي الخائف ...
كيف أرحل عن بيتي؟ وجدت بيتي بعدما كنت تائهة لا أعرف من أنا ومن أين جئت وإلام أرمي؟! وجدت الشمس بعد أن أحرقني الشتاء وألهبني الثلج، الثلج يحرق أيضًا يا صديقي إن كنت لا تعرف!
تلك الصحراء التي تسير فيها لا تطل عليك إلا هبّات ولفحات، وقلبك طفل صغير خائف، تتراءى له أشباح الربيع كالسراب، صفير يصم أذنيك في تلك القاحلة، وهجير يدفعك إلى البحث حتى عن بعض الثرى لتلعقه، ثم إذا بك بجنةٍ مورقة، ونبعٍ صافٍ حلو، ونسيم معبق، وظلٍّ ظليل، وهدوء وعصافير، وسكون وأمن يسكن قلبك، إذ تجد بعد كل هذا الضياع كل شيء كل شيء يقول لك "أنا لك وحدك" تشرب من النبع، وتقطف ثمرة او اثنتين، وتنام قرير العين في الظلِّ الظليل، ثم من فرط المحبة والتقدير، ثم من فرط ما تشعر بجمال ما ترى عيناك، ثم من فرط ما تحتقر نفسك أمام كل هذا الجمال، تشعر أنك لا تستحق كل هذا، فتحافظ على الجنة من نفسك، تجوع وتعطش وينقض مضعجك من ليلك، وتحرقك شمس الهجير، ويلفحك ثلج الليل العتيد ولا تدخل الجنة، خوفًا منك عليها، وحرصًا منك عليها، ولربما في أوقات كثيرة تخاف بشدة أن تعتاد النعيم، وألا يصبح هذا النعيم لذاك المسكين عابر الطريق السائر يبحث له عن وطن .... فخاف أن يستوطن جنة رغم أنه كان يعرفها، رآها في كل أحلامه وهو يبحث، كان موقنًا بأنها موجودة وأنه مهما ضل الطريق سيجدها، وأنه كان يعرف حلاوة النبع قبل أن يذقه، وكان يعرف استلذاذ الفاكهة قبل أن يطعمها، وكان قد جرّب الظل الظليل قبل أن يلتقيا، كان يعرف كل المداخل والمخارج، وكان كلما وجد شجرة طيبة في محلها يربت على جذعها ويقول أقسم بجمال ربي وأنه البديع كنت أعرف أنك هنا، وكلما تراءت له فاكهة كان يشتهيها فيجدها أمامه، كان قلبه يسجد شاكرًا لمولاه الذي جعل التيه والأهوال مدخلًا لجنة طيبة الريح والمدخل والمقام، لم يكن القلب التائه ليضل موطنه، ولم يكن القلب الخائف ليهلك جنته ....
وقلبي كان باحث تائه، وقلبه كان الجنة والواحة والدليل!
قلبه كان تمثال للطائف الله الخفية، وبسمته كانت تمثال للطائف الله الجلية!
أرحل مسافة خطوة وأعود باكية، حتى كأنه أنكر علي محبتي وصبابتي، فصار خوفي رعبًا، وصار رعبي هلعًا، وصار هلعي عجزًا، وصرت أريد الاختباء، بأي مكان خارج صدره فلم أجد، كانت الصحراء هناك، وكانت كل الأشياء صفراء مقيتة، وكانت الأرض مسطحة لا دائرية، أسير فلا أصل آخرها، وأقفز فلا أنتهي لحافتها فأنتهي!
أواجه الموت إذ أواجهه بمحبتي وجفاه ..... واجهت الموت، قال لي فيما يبدو أنه بدا له قوتي وأنه ضعيف في مواجهتي ... هل كان يدرك أن أمعاء قلبي كانت بلا تحكم؟ وأن قلب معدتي كان بنبض مضطرب؟ وأن أجهزتي العصبية والجسدية كلها تعمل بلا اتساق ولا توافق؟ وأنني كنت أتقيأ اللاشيء وكل شيء؟ هل كان يدرك أن تلك العين التي تحاصره كانت لا تنام ولا تستقر بدون دمع وتورم واحمرار؟ هل كان يدرك أن هذا العقل الذي يدفعه في صدره عالق في علامات استفهام لا نهائية، وأنا هذا القلب الذي كان يتحلى ببعض الأمل صار يشك في وجود الممكن ناهيك عن المعجزة!
هل كان يدرك كل هذا الاضطراب إذ يصرخ في وجهي صرخة هارب من وجه الشمس؟ أو كان يدرك أن كل هذا الهدوء الذي يظهر هو قشرة هشّة لبركان يثور وأمواج تفتك بكبدي؟ إذ يستنكر علي فعل المحبة، وإذ يستنكر على نفسه أن يحبني ولو لحظة!