الأحد، 3 ديسمبر 2023

الموت الذي لا يشبه الموت!

 في هذه المرحلة من حياتي، لجأت أخيرًا للعقاقير، لأنني لا أستطيع النوم وأعين الأطفال تشخص للموت!


منذ اليوم الثامن من أكتوبر، حيث استعاد العدوان الصهيوني الغاشم قوته، وأفاق من صدمته من ردة فعل المقاومة الذي قد كنت فقدت الأمل فيه أن يحدث، بدأت بيوت كاملة ترقد فوق أصحابها، عائلات كاملة تموت، للأبد، تمحى من السجلات، للأبد..

بعد عدة أيام للقصف الوحشي الهمجي، بدأت القوى المحتلة تقصف الحدود البرية لمصر، وصلت الصواريخ لأحب مدن سيناء إلى قلبي مدينة "دهب"، كدت أفقد وظيفتي في هذا الأسبوع لأنني أصبت بنوبة حادة من الهلع والقلق، لم أنم لأكثر من ساعتين في معظم الأيام، فقدت تركيزي، وفقدت كل شيء، حتى أني أصبت بالتعتيم أثناء عملي، فلم أكن أرَ أمامي!

لحسن الحظ أن الأسبوع الثاني من القصف كان عطلة، لكني لم أنم كما يجب، الأسبوع الثالث أستمر في الدوامة، الرابع الخامس السادس.... ثم توقفت عن العدّ.

لا أجرؤ على رؤية الدم، لا أجرؤ على مواساة الناس في حالات الفقد، أود أن أحضنهم وأخبئهم في صدري، وفي نفس الوقت أود أن أهرب، أريد أن أمسح دموعهم، لكني أجبن من أن أرى تلك الدموع ..

لم أر صور الموتى، ولا الجرحى، كنت أعرف ما يجري، أحفظ تلك الوحشية عن ظهر قلب، أعرف ما فعلوه بوطني، وأعرف ما يفعلونه بفلسطين وطني الثاني، أعرفه عن ظهر قلب.

كل يوم أسأل ماذا بعد؟

ماذا بعد؟

ماذا أفعل؟

كل هؤلاء الأطفال الذين لا يستحقون شيئًا أقل من حياة رغيدة وسلام ودفء، منذ عدة سنوات كان شعر رأسي يقف عندما أعرف أن بعض أطفال القرى لا يتحصلون على ما يحتاجون من حليب وخبز، أقول ما هذا؟ وكيف؟ اليوم أطفال غزة لا يتحصلون على النفس!


لم أتجاوز موت جدي أبدًا، وإن بدا مني غير ذلك، كل ليلة في فراشي البارد أتجاهل حقيقة أني وحدي تمامًا، منذ سنوات، أتظاهر أني غير ذلك، الليلة، رأيت هذا الصبي يصرخ في أخيه "أبوك مات، بحكيلك أبوك مات أنا شفته مات" ليرد الصغير والدموع تغمر وجهه الملطخ بالدم والغبار " يمكن نايم بس يمكن نايم عنجد"

يا ويلي!

أعرف هذه الجملة .. قلتها قبلك يا ولدي، قلتها قبل عشرين عاما يا صغيري، لكن جدي لم يستيقظ أبدًا..

كيف آخذ كل أطفال غزة وأهرب؟ كيف أحضنهم جميعًا وأقول لهم لا بأس كل شيء سيكون بخير؟ كيف لا يتبخرون في يدي مثل غبار أجسادهم المحترقة تحت القصف؟

كيف يسكت العالم عن موت أكثر من عشرين ألف نفس؟

أشعر بالخزي، بالعار، بالألم، أشعر أني عارية تماما وجميع جسدي ملطخ بالدم ولا أجد ما أحتمي به، ولا ما أمسح به الدم عني.

اليوم

منذ ساعات

بث أحد الشباب بالقرب من رفح فيديو يوثق القصف، القصف يقترب من الشاب، أقول له من عميق قلبي اهرب، لكن .. أين المفر؟ إلى أين يهرب المسكين والنار من كل اتجاه؟

هل يجد الشهداء الرحمة؟ هل ينعمون الآن بالجنة؟ هل يجتمعون مع أحبابهم؟ هل تحضن تلك الأم جنينها أخيرًا في أعالي الفردوس؟ لأن هذا إن لم يحدث فما قيمة الحياة والكرامة والدين والإيمان والصدق والأخلاق والصلاح والقيم العليا وكل تلك الشعارات التي منعتنا من فعل الشر؟

لا تقلق يا صغيري، مش أبوك اللي نايم لأ، العالم كله نايم، البشرية كلها نايمة، أنا شخصيًا باخد دوا عشان أعرف أنام .. بس لسة مش عارفة