السبت، 7 نوفمبر 2015

١٠- أبــيـض !

من قال أن عيوننا دوماً تدرك تلك الصورة الكاملة ؟

لا تخلو الصور من تناقضات واضحة ، البعض محمود يظهر جمالها في تراشق الألوان المبهر بين الناري والبارد ، والبعض يدمر التفاصيل ويحيلها ناراً من دخان الشر وأبخرة الغيرة !

عيوننا تلك لا ترى كل شيء ، قلوبنا ترى ، وقلوبنا تحجب الرؤية .

ثم من قال أن الإنسان حيوان ناطق وفقط ؟ الإنسان حيوان ماكر ، طور غريزته في البقاء ليتقمص دور الذئب يوماً ودور الثعلب أياماً .

مسكين ، يعرف قدر نفسه ، يعرف ضعفها وهشاشتها ، يحاول باستماتة التستر من أي خطر يخشاه ، حتى لو لم يكن خطراً ، حتى لو كان نفسه التي بين جنبيه ، فصار يكذب ، ثم يلون الكذبة ، ثم يصدقها ويعيشها ويتعايش معها ، حتى تهزمه حقيقته ، حقيقة نفسه ، أنه هش ، وضعيف ، وأجوح إلى الذي تهرَّب منه من الهروب في ذاته !


يحبها ، يشتاق ، يحادثها كل ليلة في منامه ، يهرب منها صباحاً ، يتشاغل ، يصنع جزيرته الزائفة ، يخدع قلبه بنجاحات لامعة ، يشاغله كطفل في مهد الحب تركته أمه وسط الصحاري الموحشة ، يتعب من العمل ، يعود منهكاً فينام ، صار يشغل رأسه بأمور كثيرة وتفاصيل كثيرة حتى لا يهزمه عقله بحلم هي سيدته ومليكته !

تشغله التفاصيل المملة ، وتغرقه ، الأمواج الجديدة تأخذه ، لكنها لا تنجح للنهاية في الخداع ، لابد من ارتطام زورق الكذب الهش بشطآن حقيقتها الصلبة .

بيضاء بنورانية تلمع في عيونها ، لأجله ، لأجل عينيه .... ثم تنطفيء إذا ما استدار !

يجلس بعد العصر ممسكا دفتره ، يدون ما يدون كل يوم من أحداث ، يتذكر ورقة أوصاه الطبيب بقرائتها ، يفزع من مكانه بحثاً عنها ، يظن أنه أضاعها في أشياءها التي كان يتنفس عبقها ليلة أمس بعدما غرقت في غيبوبة النوم من التعب ، فتح تلك الأدراج التي لم يفتحها من قبل ، فتح أشيائها التي طواها ليلة البارحة على عجل ، قميصها الزهري المزركش بوردات الربيع البرتقالية ، يشمها ، يحضنه ، ينطوي بداخله ، ويعود إلى حيث كان ، إلى حيث حبها يأخذه إلى عالم الملكوت .....

يؤلمه قلبه ، في ثورة لم يعهدها ، يبكي ، يبكي بشدة ، يتوشح قميصها ، يعود إلى خزينته السرية ... يعود إلى حيث كان يسطع حينما تسطع نجمتها ........

يعرف كيف تكسر الدنيا قلوبنا فنكسر نحن قلوب أحبائنا عن عمد تام وبلا قصدٍ خالصٍ !

يقوم من مكانه ، يرتب الأشياء ثانية ، يحمل مفاتيح سيارته ويذهب ،

يحضر الشمع والورد والشيكولا

يحضر تلك الرائحة التي تملأ قلبها بأنفاسه التي أوشكت على نسيان كيف تكون رائحتها شهية في الشتاء !

يحضر اللافندر إلى ركن قلبه الركين ثانية ، بعدما كان أشبه بالمهملات الكبرى !

ينوي أن يفاجئها بعشاء دافيء في أمسية توشك أن تمطر .... في طقس لا ينبيء بما هو قادم أبدا ! مضطرب مثل قلبيهما تماماً !

يخفف إضاءة البيت ، يبحث عنها بهدوء ، ليست هنا ، يفرح ويقلق بذات الوقت ، يضع قلقه وقلبه في تلك التفاصيل التي تمتعها ، يرتب الوردات كما اعتادت هي أن تنبهه تماما ، يصنع فنجانين من الشيكولاتة الساخنة ، يضع العشاء في الفرن ويضبط الوقت ، يشعل الشمع ، ويملأ الأركان برائحة اللافندر ....

تحت المرش ، يعود صبياً ، يعود إلى أبيض قلبه ، يصبح ورقة جديدة ، يقول لنفسه فليكن ما كان كائن في ماض سحيق ، كيف أقتل قلبي والحياة كلها في صوتها وضحكتها ؟
ينوي أن يصبح كل شيء بينهما هذا المساء وليدا كما كان ، صغيراً ليكبر من جديد في بستان هما راعياه ، ينوي أن يخرج كل ما في قلبه هنا ، تحت زخات الماء ، كأنه يغسل وجع أفكاره بذاك الصابون .
سوف يفتح قلبه وآذانه لكل ما ستقوله هي ، سوف يضمها بقوة ، سوف يحمل كل الحزن عندها ، سوف يتسخ بآلام خلفها عناده بدلا من قلبها الصغير ، سوف يهدهدها على ذراعيه كطفلته المحببة كما اعتاد ، سوف تبكي كثيراً ، هو يعلم كيف تبكي وكيف يخنقها الدمع ، سوف يحملها في صدره ، سوف تنام هناك ويمسح عنها العرق والدمع والشعر المجنون الذي يثور لثورتها ، سوف يجعل صدره سكنها كما كان دوما ، سوف يحملها إلى سريرها ويمسح عنها النوم صباح اليوم التالي ويرى الشمس لأول مرة من جديد تطل من ثغرها الباسم الصغير !


كان اليوم متعبا وطويلا حقا ، أول مرة تدخل البيت بعد الغروب بمفردها منذ تزوجت !

دخلت ، وضعت حقيبتها جانباً ، ابتسمت لليوم الذي ملأ قلبها سعادة وحباً ، أغمضت عينيها في رضاً ، تخللت رائحة اللافندر جسمها ، فابتسمت ، فتحت عينيها لتجد ما حمله لها هذا الصغير الكبير هنا !

بطرف ثغرها رفعت بسمة ساخرة ... لمست الورد بقلة اهتمام ، أوجعها صدرها بشدة ، قلبها يقتلها ، ضمته بقبضتها تضغط مكان الألم ، تحمل حقيبتها بخيبة أمل وألم ، تصعد غرفتها ، تغلق الباب وتلقي بجسدها النحيل المسجى على السرير لتغرق في غيبوبتها قبل أن يجتاحها البكاء !