الأربعاء، 17 أكتوبر 2018

متى نرحل من هنا؟ من العالم؟


هذا العالم لا يحبنا يا أمي
هذا العالم لا يشبهنا متى نتركه؟
قلتِ لي يومًا أن من أراد شيئا يحصل عليه، يحارب من أجله، ويناله بالصبر
كم قلت لكِ أني أريد الخروج من هنا
قلتِ لي: ما هنا؟ لعل الله يفتح لك بابًا يسرك خارج تلك البلد
لا يا أمي ... من هنا ... من هذه الأرض ... من هذا العالم
لماذا لم تخبريني منذ البداية أن هذا العالم لا يشبهني؟
لماذا تركتني بين الكتب والموسيقى؟ لماذا تركتني أشاهد الأفلام وأهضم الروايات وأتغذى بالشعر؟
لماذا حملتني مسئولية العالم إن أنا ألقيت ورقة على الأرض؟
لماذا حملتني كل قبح العالم إن لم أهذب مظهري وغرفتي وملابسي وكتبي كل يوم؟
حتى صرت لا أثني ورقة بشكل قبيح، ولا أخط بقلم في كتاب أقرأه، ولا ألون جملة أعجبتني، وأتعامل مع الكتاب مع كل كتاب كإنه كتاب مقدس!
لماذا علمتني الابتسام بوجه الناس قهرًا، أن يكون ظاهري مثل باطني، وكأنك بعظاتك اللطيفة تخبريني أن الكذب سبب في تحولي إلى شيطان رجيم والخروج من ثوب الملائكة؟
لماذا علمتني كل هذا التسامح؟ لا أجد في قلبي محلا للغضب المتنامي، ولا الانتقام؟ لماذا عندما أريد الانتقام من أحد أنتقم في نفسي؟ فأقطع شرياني؟ وأنهش في جلدي، وأجرح وجهي، وألطم وجنتي الصغيرة، وأهشم جمجمتي ما استطعت في الحائط فتنتزعني يداكِ؟ لماذا أصرخ في وجه نفسي؟ ولماذا كلما أساءني أمر وقفت في المواجهة ظنًّا مني أن هكذا تسير الأأمور وهكذا شجاعة الفرسان الذين حفظت قصصهم عن ظهر قلب، فصار قلبي فارس نبيل، لماذا لم ترقِّ في معاملتي يا أمي فتخرجيني أميرة مدللة؟ أصفع من أغضبني بقسوة، وأتدلل على المشكلات فيحلها غيري؟
لماذا تركتني لقصة الفرسان الثلاث؟ ولحروب أيرلندا، ولفرسان اسكتلندا؟ ولماذا وقد كنت فردًا من أجل الأمة عندما احجتجت الأمة لم تكن الأمة من أجل الفرد؟
ولماذا عندما كان الحب يكسرني كنت تبتسمين وتقولين ستعرفين الحب؟ ولماذا عندما حان وقت الحب قلت لي انظري بعقلك، ولماذا عندما جاء الزواج ونظرت بعقلي لم يعجبك أني أريد تلك القصص التي رأيتها، وبالعقل والمعقول والمنطق، لماذا يبتسم هذا العالم للأشباح والأنصاف؟ ولماذا يا أمي يعبس في وجهي وقد عشت مبتسمة له، ليس رغم أنفي لكني والله يا أمي عند غياب ناظرك الناقد والمقوم كنت أجري وراء الفراشات، هل كنت أخبرك أني تعلمت أن أمسك جناحات الفراشة برقة؟ كنت أصطاد الفراشات بخبث ومكر ودهاء؟ هل قلت لك أن بداخلي صوت كان يطلقهن من بين أصابعي الصغيرة؟ كنت أقرّب الفراشة من وجهي أنظر إليها أتفحصها ثم أطلقها سعيدة بهذا الانتصار؟ لكني لم أخبرك أبدًا أنني كنت أحزن بشدة لما يطبعه جناح الفراشة في يدي، كنت أظنه مجرد لون تتركه الفراشة، لم أكن أعرف أنه جزء من جناحها، هل أخبرتك أني تبت عن هذا الفعل عندما تجرحت الفراشة؟
هل أخبرتك أنني اصطدت أحد الحشرات؟ (فرقع لوز) كما أطلقنا عليه؟ شيء صلب الجسم أشبه بالصرصور؟ كانت مغامرة لأنه أسرع وأصغر ويطير، لكن بعد مرتين أو أكثر قليلا، رأيت سخف ما يحدث، فلم أعيدها، ولم أسجن فرقع لوز مرة أخرى! رأيت أنا أطفالا سخفاء وحمقى أن نؤذيه
هل قلت لك أني كرهت اللعبة، وكرهت جيراني الذين كانوا يدعسونه بعدها؟
وهل قلت لك أني أكره الصراصير؟ وأفزع منها رغم ذلك؟ وأشعر أن جرثومات العالم سوف تغزوني إن لمسني أحدهم؟ أفرطت في نظافتي يا أمي!
هل أخبرتك يومًا أنني كنت أكره الظلام؟ كنت أرى فيه أشباح القصص المرعبة؟ عندما جلست يوما تقنعينني أن هذا تمثيل، هذا غير حقيقي، أثبتِ لي الأمر بمشاهدة ذات الممثل في عمل جديد، اقتنعت، حتى أصبحت أرى الذي ماتوا قابلين للعودة للحياة مرة أخرى!
كنت أقرأ الرواية دائما من تلك الزاوية البعيدة، أنقم على الكتاب الذي لا يجعل الحق ينتصر، وأكره النهاية التي تعذب إحداهن بالحب أو الفقد أو المرض، ولا أرضى بمشهد موت في غير حضن الأحبة، حتى ظننت العالم له فرصة ثانية
ظننت يا أمي أن الرجل الذي يطلق النار في الشارع ممثلا محترفًا، وأنه عندما نربت على كتف القتيل عند الانتهاء سيقف، وينظف ثيابه ويقول" ها مشي؟ أروح أنا؟" ولكن القتل صار قتيلًا وظلَّ قتيلا!
كبرت، وعرفت أن الوداع لا يأتي أبدًا، وأن فراق محبوبي سيكون فجأة بلا كلمة وداع واحدة، وأنه لن يضمني بشدة قبل سفره البعيد، وأنه لن يلوح لي من الباخرة، وأني عندما يحين اللقاء لن يكون لي أي فرصة في استقباله عند الطائرة ... لأنهم يا أمي يضعون الأسوار في كل مكان، ويمنعنون الحب أن ينتشر، ولأنه يا أمي لم يعد يحبني مثلما اعتدنا، ولما يعد يمسك يدي إذا عبرت الطريق، ولم يعد يطعمني من الذي اشتهاه من الطعام، ولم يعد يعرفني على الكتب الجميلة، والموسيقى الراقية التي كنا نسمعها، ولأنه يا أمي خرج من الرواية، وصار شخصًا عاديًّا مثل هذا العالم القبيح!
أخبرتني يا أمي أن الحب يصنع المعجزات، وما وجدت في معدتي غير القرح، وفي قلبي غير الوجع، وفي المريء غير حركات تشنجية، وفي أنفاسي غير التلاحق والتنافر وكأن اضطراب القلب قد أعدى رئتي!
أخبرتني يا أمي عندما انكسر قلبي للمرة الأولى، أنه لم يكن حبًّا، وأني سأعرف الحب إذ ينطلق نحو الباب، إذ ينثر أوراق الورد، وإذ يبعث بالعبير إلى قلبي المشعث فيلملمه، قلتِ لي أني عندما أقابله سيكون مثل الرواية، سيكون مثل أجمل الحكايا، سيكون مثلما أتمنى وأجمل وأكثر، لكن لا تقعي بكلك في الحب يا ابنتي!
وعندما وجدته يا أمي، كنت أمد قدمي ببطء، عندما كنت أشمئز من مشاركة كأسي وطبقي وملعقتي وفمي أحد، شاركته كل شيء، شربت من كأسه، وتشاركنا قطع الطعام وأكلت من طبقه، ومددت أسناني فوق تعاريج أسنانه على كعكتي، وكانت حلوة، وكان الماء أكثر عذوبة إذ يلامس شفتيه ويجري عليه ريقه، لكنك لم تخبريني يا أمي أن البشر يتحولون لأشياء أخرى لا أفهمها إذا عجزوا عن القتال!
قلتِ لي إن الرجال إما رجالًا أو ذئاب، فصرت أبني الزجاج بيني وبينهم، وألوح فقط من بعيد، كيف لاح القلب النبيل وراء كل تلك الأشياء؟ وابتسم لي؟ ووجدني كأني كنت ضالته؟ ووجدته وكأنه حلمي الذي ظل عمرًا طويلا يراودني ولا يأتي!
كيف لم تخبريني أن هناك منتصف، أقولك لك هل كان ذئبا مثل الذي قبله؟ ترفضين، أقول لك هل كان رجلًا إذ تركني في الطريق وأنكر كل ضروب المحبة؟ تسكتين .... حتى أقول لنفسي كل يومٍ ... قد كان حلمًا في غيبوبتي التي تصيبني حال نوبات اكتئابي ...
أخبرتني يا أمي أن هناك وطن، نحبه أكثر من أنفسنا، ولم تخبريني أن هذا الوطن لم يوفر لي أي شيء، أن الوطن عندما طلبت نجدته عندما حدث لي حادث لم يغثني لأكثر من أربع ساعات، وأن هذا الوطن لم يوفر لي أمانًا إذ عبث أحدهم بجسدي في الطريق العام، وأن هؤلاء الناس الذي يشكلون وطنا بصقوا على وجهي عندما أردت أن أذهب باللص إلى الشرطة، وأن عساكر الشرطة أخرجوا لنا أعضاءهم ليسبونا في أعراضنا، لم تخبريني يا أمي أن هذا العالم لا يشبه أي عالم حدثتني عنه ....
لم تخبريني عندما كنت طفلة تبتهج بالمكتبات الجديدة، والكتب الملونة، وتعشق القراءة، أن تلك المرأة التي يضعون صورتها على المكتبات وملصقات اسمها على المدارس باسم الطفولة، وأن هذا الحفل الذي كنت أود المشاركة فيه لأغني وأرقص يومًا في مهرجان الطفولة أمامها سيأتي يوم لا تبالي فيه بأرواحنا، ويقول المنتفخ وراءها أنا أو الفوضى، لم تمنعيني من الانشراح لصورتها يا أمي، ولما تمهدي لي طريق الشوك، فصرت أنزف في هدوء كل مراهقتي وأنا أكتشف، أن هناك ذئاب نبلاء، وهناك بشر أخساء، وأن هناك يا أمي أناس لهم كل وجه، وأن هناك رجال بصورة رجال وقلوب ذئاب وأنياب الغول!
كنت صغيرة عندما قال نور الشريف ممازحا لكن نابي مش أزرق نابي أبيض حتى شوف؟
كيف يكون لبشر ناب أزرق؟ كنت أربط بين تلك الصورة والتيجان الفضية أو المذهبة للضروس المكسورة .... لم أعرف ان أنياب الناس قد تصبح زرقاء كالغيلان!
لم تخبريني الكثير يا أمي، ولم تكفي عن إقناعي أن هناك مكان أفضل في هذا العالم، وأن هناك قلوب ثرية في هذا العالم .... قابلتهم يا أمي، وكأن أكثر من أحبب تحت الثرى ... لماذا يا أمي يستكثر الثرى حضنه علينا؟

الاثنين، 8 أكتوبر 2018

عزيزي البحر!

ماذا لو عندما تعانقت أرواحنا حوّلتني إلى سمكة تعيش بداخلك ولا تمل منك ولا تمل منها؟

هل كان الأزرق يناسبني؟ هل كان يشبهني مثلما أزعم؟ هل كان هذا الهدوء الذي أبتغيه عندما أنام على صفحتك هو ما كان سيدخل قلبي؟

البحر واسع وضيق!

أسبح وأسبح وأسبح، أتعب أنا وانت ما انتهيت، ولا وصل بصري إلى شطآنك، ولا تصل قدمي ولا ظلها ولا امتداد الظل إلى قرب أعماقك ... فلماذا ينتابني الضيق إذا رأيت نفسي سمكة؟

لربنا صغر أحجام الأسماك التي أعجبني بيتها بين الشعب؟

ولربما لو حولتني إلى حوت أو حورية؟ هل كان الأمر ليختلف؟

هل تجعلني حورية بالنهار، ثم إلام تعيدني في الليل؟

هل تعيدني إلى نجمة تطل عليك من العلية؟ تبعث نور قلبها لترى انعكاس بسمتك كالمرآة؟

عزيزي البحر ...

هل كنت تعرفني قبلا؟ وإن كنت تعرفني؟ لماذا كنت تتسلل إلى مناماتي تلامسني وتغرقني ولا تأتيني في الصباح؟
لماذا كنت تشبعني من الحب في تلك المنامات، وتخيفني عندما أقترب من رمالك والموج الحثيث؟

من منّا الذي كان يغرب بوجهه عن الآخر؟ من منّا ذاق الحب ومن هابه واختفى؟

كنت أراك في ليالِ كثيرة، أسافر إلى تلك البلاد التي تحمل جزءًا منك ... سيناء ... أو بلاد لم أزرها يومًا .. كنت أتعجب .... كيف أعرف البحر في تلك البلاد ويعرفني؟

وكيف أدس قدمي في رمالك فيأتي الموج يقبلني؟
وكيف أغار منك؟ وأغار عليك؟ وأخشاك؟ وأحبك؟ وأود الغوص وأود الهروب؟

كان أخي يقول لي في كل مرة ... البحر يحملك .. الماء ترفعك

قالت لي صديقة ... أحبيه ... ثقي به ... أسلمي له نفسك وسوف يريك من أعجوباته

وكانت أمي تقول ... البحر غدار يا ولدي!

وأنا ... بين كل المقولات أقف أمامك وأتعجب ...أيهم يا عزيزي البحر أصدق؟

عندما انتابتني نوبة أرق منذ شهور طويلة ... أخبرني أخي عن تطبيق فيه صوت الموج ... أضبطه وأنام .... أشعر أني نائمة على الرمل ... الصوت يحاصرني ويبلعني .... والنسيم العليل يشرق برائحتك ... أملأ صدري .. فيصدمني هواء جاف! 

عندما التقينا منذ عدة أشهر ... كان أول لقاء ألقي فيه بنفسي إليك ... كان ترحيبك حار ... دخل الماء إلى كل جسمي ... إلى فتحتي أنفي وحلقي وعيني ... أقول لأخي لقد صرت ضربًا من المقبلات المملحات

وعندما التقينا قبل شهرين ... في أول يوم ... كأن الخوف كان يجثم على صدري ... بتّ ليلتي اتنفس بصعوبة ... كنت أشعر أن الموج يطبق على نفسي!
في اليوم التالي ... كنت تصالحني ... كنت تمد إلي يدًا حنون ... كنت تفتح لي قلبك ... كنت تغني لي ... كنت تحكي لي قصة الشاطر حسن الذي وجد صندوق الأعاجيب ... كنت تفتح لي صندوق الأعاجيب .

عزيزي البحر ..... أحبك