الاثنين، 24 أغسطس 2015



أيها العابرون من هنا سلام عليكم :)

اللون القادم أبيض !!

لكني متعثرة بالكتابة


أعتذر لمن يتابعون الألوان :)

أعتذر للصديقة التي وعدتها بالنشر القريب :)


الأحد، 23 أغسطس 2015

فنجان القهوة لا يقتل !


تلك الأيام التي تتعثر فيها الخطوات بين أشياء كثيرة تريد إعادة ترتيبها

أفكار مشوشة ومشاعر مبعثرة وشعور لا ينتهي باللامبالاة والذنب في آن واحد

جدول مشعث ومشاغل من الهواء تتلاحق

زيارات الأطباء صارت وسما لليوم !

لا تنام

هي لا تنام وبنفس الوقت تنام كثيرا ويصبح كل حلم لها كابوسا مزعجا

تقتلها الأحلام واليقظة

تهرب وتواجه وتهرب وتخلق لنفسها تلك الشرانق المتلاحقة


لقد كسرت شرنقتها منذ البداية ولا شرنقة جديدة تضم جسدها الكبير


كبرت كثيراً على الشرنقة

فبدأت كالخفافيش تلجأ للكهوف

ترتب أوراقها بسرعة

لديها موعد في البكور

النوم يقتلها ويهرب ، لا ينام ولا يجعلها تنام

منهكة

تكابد عناء كبيرا في الصحو

تهرع إلى ماكينة القهوة


ينبهها صديق حليم لخطورتها “ ألم يحذرك الطبيب من القهوة ؟ “

ترد بلا مبالاة كبيرة : …. فنجان القهوة لا يقتل !

على الهامش !

كيف أخبرك أني لربما أقع في فخ حبك قريباً ؟

كيف لامرأة تركل الحجر الصغير بطريقها أن تنضج فجأة وتقع في حبك كأنثى راشدة ؟

كيف لضفائر شعرها المتعبة من الجدل والتصفيف أن تتخلى على النسيم الذي يطيرها كأغصان الزيتون وتعدك أنها سترفع شعرها خلف رأسها كالنساء الواثقات ؟

أو تفك شعرها بغجريته كالنساء الماكرات ؟

أو تتخلى عن تضارب خصلاته للتأنق بعينيك كالنساء الحالمات ؟

كيف لامرأة تحررت من وثاق الحب أن تلف الوثاق حول عنقها ؟

أن تخبرك أنها تضع جيدها بين يديك راغمة وراغبة ؟

كيف لامرأة تبلغ من العمر خمسين أو يزيد أن تصبح بين يديك شابة في الثامنة عشر من العمر تداعبك وتغازلك وتستحي منك ؟

كيف لامرأة تتعثر في أثواب الطفولة أن تخبرك أنها تحبك ؟ لم يتكور قلبها كثمرة الكمثرى بعد !

أو تكور ، وتآكل ، وسقط في الطين ، وهي تجلس القرفصاء بجواره تنتظر أن ينبت من جديد !

كيف لها أن تبتعد عن عطرك

وكيف لها أن تحترق بجنتك ؟

وكيف لها أن تراوغ براكينك الثائرة ؟

وكيف لها أن تثير أنهارك العذبة السهلة المنيعة ؟

وكيف لها أن تتعداك ؟ أو تتعدى إليك ؟

كيف لامرأة لا تشعر بأنها امرأة ولا ترى بأنها طفلة أن تشعر بك ؟ وكيف لها ألا تفعل ؟

ثم

أخبرني

كيف هي إن مشت في طريق مقمر وحدها أن تشعر ؟ سوى بالهرب ؟ سوى بالغربة ؟ سوى بضرورة اللجوء إلى وسائد صدرك الوثيرة ؟

وكيف هي إن وقفت تقتنص حقوق صديقتها من مخدع رجل أرضي يتحول في الليل إلى ذئب أن تصبح بحضورك نعجة ؟ أن تصبح بحضورك بجعة ؟ أن ترقص حولك طول الليل ؟


أخبرني

كيف هي إن دللها الأحمر ، واشتهى بسمتها الأبيض ، واختار القرمز المجنون أن يصبح تابعها ، واحتار في زهرتها الأخضر ، أن تطلب صيفاُ يحرقها بدلا من ألوان الطيف ؟

أنت الصيف !!!

وأنت بكل طيوف الصيف

وأنت تحــيّــر قلب صبية ، يتيه بكل دروب البلدة ، قل خبرني ، كيف لتلك المرأة أن تصبح يوما مفتاحاً لقفص صدرك المتهالك والمتعالي ؟

كيف لها أن تدخل فيه ؟

وكيف لها أن تترك فرشاة تلوينه ؟ وقد أثارها التراب ، ولمعان الشمس ؟

كيف لها أن تقترب وهي تطلب البعد ؟

أن تحبس قلبها عندك وهي تسعى للحرية ؟ للتو تفك ضفائرها !!

أخبرني

هل تصبح ألوان الطيف ؟

هل تتحمل عبثيتها حينما تركل الأحجار ؟ كما الأطفال؟ وحينما تتحداك ؟ وحينما تحاربك ؟ وحينما تنام بصدرك هائمة كسحابة صيف ؟ وحينما تحملك مثل حمامة حب ؟ وحينما تهبش قلبك ثائرة ؟ أو غاضبة ؟ أو خائفة ؟ وحينما تكون أنت الأبيض وتخشاك فتنام ليلها في حضن القِرْمِـز ؟

هل تتحمل ؟ أن تصرخ وتضحك وتتكلم ثم يحين الصمت فيحيلها إلى نسمة ريح ؟ أو ورقة شجر ؟ أو ثرياً ترى لها أثراً ولا تسمع لها صوتاً ؟

هل تتحمل أن تصمت فجأة وتطلب منك الصمت التام ؟

امرأة حرة ومجنونة ! لن تجبرها ولن تشعر معها بالإكراه !!!!

هل تتحمل رقص البجعة ؟ وهديل حمامة ؟ وأظافر قطة ؟


هل تتحمل امرأة لا تعرف الطريق ؟ ولا تنتمي إلى وطن ؟

هل تتحمل أن تصبح وطنا وتصبح يوما أرضا بوراً لا تطأها ؟

هل تصبح شمساً ؟ ومطراً ؟ وقوس قزح ؟ ولا تنتظر البسمة ولا القبلة ولا كلمات الحب ؟ ثم تراها تكون سراباً بعد الحب ؟

هل تصبح ورداً جورياً ؟ وتحمل ورداً جورياً ؟ وتصبح فجأة كناساً يحمل أشلاء زهورك المقتولة ؟

أخبرني

كيف لامرأة لا تنتمي أن تنتمي إليك ؟

وكيف لامرأة لا تنتمي أن ترفض وطنك ؟

الثلاثاء، 18 أغسطس 2015

٩- صــفـراء !!

الأنفاس الاصطناعية تعطينا شعوراً مؤقتاً بالحياة ، تنقذنا من الموت لدقائق أخرى تمهل فيها القلب كي يستفيق إلى عمله ويعود بوعيه إلى الحياة .

مؤثرات النشوى كذلك ، والانشغال عن الألم نفس اصطناعي كبير ، يمنحنا إياه العقل ، ظناً منه أن القلب ماكينة ، تخدعها الأنفاس الزائفة ، يستجيب القلب للزيف أولا ، ينشط ، يعمل بنشاط ، يفرح ، يرسل إلى العقل موجات إيجابية بالحياة ، ينتشي العقل ، ويرسل الأدرينالين لباقي الجسم ، فيشاركه النشوة ....... القصيرة جدا !

الرتابة والألم ، لا شيء فيهما يقتل الآخر ولا شيء فيهما يصادق الآخر للنهاية ! صديقان مشاكسان جداً .
ترتيب الأشياء باعتيادية وتغيير نظام المطبخ كل فترة بدأ يصبح تراتبياً ، يعطيها نفساً اصطناعياً جديداً ، تتصنع أنه نفس حقيقي ، قبلة حياة أخرى ، فتنشر فرحة زائفة ، وتستخدم الأدرينالين في عروقها عن آخره ، وتسقط مغشياً عليها من التعب .... وتصنع النشوة !

صارت بارعة حقاً في صنع أنواع مختلفة من المعجنات الحلوة والمالحة ، صارت تتقن المربى بشكل يجعلها بفخر تنافس أعتى شركات صنعها المحلية والأجنبية ، صارت تعرف تقنيات في الطبخ لم تكن تعرفها ، استخدام الأشياء القديمة واستغلال المساحة وخدع البصر بالألوان .

صار لها عمل خاص صغير ، تبيع الحلوى عبر الانترنت ، تبيع بعض أشياء تصنعها في الوحدة ، تبيع غزل الصوف الذي لا يكتمل على حاله من عدم الاكتمال عندما تمل منه ، تشاركها نساء أخريات ، مللن الرتابة أو أدمنَّها !

صاروا يسمونها بائعة الفرح ! كل أشياءها المعروضة للبيع فرحة وتدعو للفرح ، معجنات بأشكال الزهور والفراشات ، تمزجها بأعشاب أو حلوى أو خضار أو فاكهة ملونة ، تضفي شيئاً بين الواقع والخيال عليها ، شيء يجعل ما تبيعه مميزاً رغم بساطته !

كانت تبيع الحب ، تبيع الحب بشكل آخر ، تمنح من حولها تلك الأنفاس الاصطناعية الخانقة بشيء من جدية وشيء من حياة ، كانت تضيف لهذا الأكسجين القاسي بعض العطر ، بعض النبض الذي تفقده .

بذات الوقت ، بدأت تتألم ، عجيب ! امرأة  بهذا الانطلاق تتألم ؟

آلام متفرقة لا تدري مصدرها ، كانت تعوزها للعمل الدؤوب ، للنوم القلق ، للتدقيق في التفاصيل ، لانشغالها بمشروع لا تعرف عن إدارته شيء إن كبر منها ، الأمر مجرد صدفة ، وهي لا تجيد التجارة ، هي فقط تريد صنع بعض الدوائر الجديدة كي تخرج من دائرة قيده .

يزعجها الأمر ، تتجاهل ، تصاب بصداع نصفي يدوم لأكثر من يومين ، تمارس بعض التمارين ، لا ينتهي ، الدوار يلاحقها ، تضطر للبحث عن مشفى في المدينة الجديدة ، ثم تقف فجأة وتسأل .... هل تخبره ؟ هل تذهب بمفردها ؟ هل تعود للعاصمة حيث بيت الأهل ؟ ثم كيف تعود ؟

يطل الصغير من الشرفة وهي غارقة في فنجان القهوة .... يا زهرة تشرين الندية ، تلوح له ، يفتح الباب ويدخل ، تسأله عن المشفى القريب ، يعرفه جيداً هو بجوار مدرسته ، يصحبها ، فتكفيها صحبة الصبي !

" هل تعانين ضغوطا مع أولادك ؟ "
= كلا ... ( تبتسم بشيء مرير ) .. ليس لدي أولاد بعد ( لا أعرف إن كنت سأحصل على تلك الفرصة حتى ) ... آه ... هذا صديقي وابن الجيران .

" هل تدرسين ؟ "
= تهز رأسها  بالرفض وبسمة حيية حزينة تعلو شفتيها ...

" هل لديك مشكلات أو ضغوطا حياتية ؟ "
= تنظر في عين الطبيب مباشرة كأنه فاجأها ، تخفض رأسها ، تبتسم تلك البسمة الصفراء القاتلة ، حرب الإجابات في رأسها توجعها ، بأي شيء تجيب ؟ بأي لون ؟ بصنع الحلوى الذي صارت فيه مايسترو ؟ أم بزوجها الضبابي بعد ذاكرة عشق لا تخون ؟ بأي امرأة تجيبه ؟ البرتقالية اللامعة ؟ الفيروزية الحنون ؟ أم الرمادية الخافتة الغامضة ؟

" لعلك بحاجة للراحة والهدوء قليلا ! "
في محاولة للدفاع ترفع رأسها ، تفتح فمها ، تهم بالكلام لكنها تتلعثم ، هي تريد أن تخبره ..... الحقيقة ؟ كلا ... لكن ما تود لو يكون الحقيقة ... أو ما يجب أن يعلمه شخص غريب ....

= أنا بخير ...

" نعم أنت بخير ، أعلم ، لا شيء عضوي ، إن ظهرت أعراض جديدة أخبريني ، أرجوكي لا تدخني تلك الأيام ولا تشربي أي محتوٍ للكافيين ، لا للمنبهات تماما ، أكثري من شرب الماء والاسترخاء ، ...... تمارين التنفس ستفيدك "
= حسناً

تهم بالانصراف ، يناولها الطبيب بطاقتين ، رقم هاتفه إن احتاجت للمساعدة ، وبطاقة أخرى بها هاتف طبيبة نفسية ، ابتسم بشيء من أدب وخجل من حيائها الجـمّ والمشدوه أمامه " في حال احتجت المشورة "

تبتسم بين تردد وتلعثم !! حتى الابتسام يخرج متعثرا من شفتيها !

تَعِـبَـتْ ، من حقها التعب ، هذه المرة قررت الجلوس ، قررت أن تتعب بحق ، أن توقف الأدرينالين وتستجيب لصراخ القلب الحقيقي بعد نشواته الزائفة ، أن تجلس ، أن تلهث وتلهج وتصرخ وتبكي ، أن تكسر بعض الأطباق ، وأن تضرب عن الحياة لحين !

تَعِـبَـتْ ، وصدمها التعب بأنها كانت تهرب ، من الحرن بصنع الفرح ، ومن القسوة ببيع الحب ومشاركته ، ومن الألم بالحنو وتطيب الجروح ، شعرت كأنها تفيق من مخدر فائق القوة ، على عالم ليس عالمها وليس لها ، شيء يفصلها عنه ويفصله عنها ، بدأت تسأل منذ أسابيع طويلة ، أين هو ؟

يدها ترتعش ، تحمل الأشياء بوهن ، ترتب الأشياء ثم تضيق ذرعا بها ، فتتركها وتجلس تلتقط أنفاسها ، كلما شعرت بالتعب كانت تشرب كوبا من المياة ، قهوة بلا كافيين مثل لبن بلا دسم ! لا طعم ولا مزاج ،  تهم بتدخين سيجارة ، عادة سيئة تراودها كلما هدَّها التعب ، تتراجع ، تبكي ، لأول مرة تبكي منذ شهور ، لكنها تبكي بشيء مرير .

في الصباح الباكر ، تحاول التعامل مع اليوم كأن الألم لم يصدمها أمس بمحاولات الهروب الفاشلة ، من سؤال ظل يقرص جنبها طوال الليل أين هو حتى أدار مفتاحه في الباب ودخل يبحث عنها كالمجنون فتظاهرت بالنوم ، تنكر أنها تظاهرت بالنوم وأنها سمعت اسمها في لهفة طال شوقها لها .

تشرع الشرفة أمامها وتجلس تقرأ ، تحاول شرب بعض اللبن فيباغتها ألم جديد ، القولون ؟ أم نسمات برد لفحت عظام صدرها ؟ تحاول التنفس سريعاً لتتغلب على الألم ، تتذكر أن التمرين بطيء ، تحاول تنظيم أنفاسها ، تحاول الهدوء ، تحاول لكن الألم لا يزول بسرعة ، والتنفس ليس عصا السحر !

تنام ، وتدير الموسيقى ، وتبكي ، وتتألم ، وتعاند كل شيء كي يتوقف الألم ، تتعب ، تبكي أكثر وأكثر وأكثر ، تدرك وقتها فقط كم هي وحيدة وتعيسة وبائسة ، تبكي أكثر ، تدرك كيف أنها تخلصت من قيده فصارت خائفة في قيود نفسها أكثر ، تبكي أكثر ، تذكر كيف ظنت أن العالم في عينيه وتدرك أنه كان انعكاس عيونها ، تبكي أكثر ، تذكر كيف كانت اللهفة وكيف كان الشوق وكيف حل الهجر والجفاء والبعد بديلاً لكل ذلك ، تدرك وقتها فقط ليس كل شيء قابل للإصلاح ، تبكي أكثر ، تبكي بحرقة وبشدة ، تبكي حتى تجلس تلاحق أنفاسها من شدة النحيب ، تبكي الآن والآن فقط لأنها أدركت أنها كبرت بما يكفي لتفهم تلك الحقيقة ، أنها الآن نضجت بما يكفي لتطأطيء رأسها لعواصف الحياة أو تموت تمزقاً فيها ، تبكي أكثر لأنه جعلها تكبر هكذا وتنضج فجأة هكذا وقد كانت بين يديه طفلة ، تبكي أكثر لأنه لا شيء يعود مثلما كان ، ولا شيء ينصلح بلا ندوب قبيحة تجرح يدك كلما لامستها وتجرح قلبك كلما ارتأتها !

تفقد شهيتها لكل شيء ، للعصافير ، للطبخ ، للعجين ، للزرع ، للقهوة ، للكتب ، لكل شيء ، للحياة !

تنزوي طوال اليوم في الشرفة ، تنظر إلى اللاشيء ، وتنتظر اللاشيء ، قد تعي جلستها ، فتبكي كمداً ، وقد يغلبها الجو الباردة بنعومته فتنعس بين يديه كطفلة .

يعود مساءً ، ذراعيها متحجران من البرد ، أطرافها بيضاء جداً كأنه لا دم بهما ، وهي غارقة في نوم أشبه بغيبوبة صغرى ، يحملها فلا تشعر به ، يضعها في فراش دافيء ويدثرها بغطاء ناعم ، يزيح عن جبينها الأصفر فتنته ، شعرها الكستنائي الساحر ، كل شيء في شحوب روحها يخبو ، يؤلمه خفوتها وصفرتها ، لكنه يغض الطرف ويخرج .

كالزهر نذبل ، وإن أصابتنا صفرة الذبول فهناك أمل ، أمل ضئيل  لكنه يظل أملاً ، بأن يداعبنا الندى ، أو يمنحنا الغيث قبلة حياة حقيقة ، نبض حقيقي ، حب ، ولع ، شيء يلم بتلات أرواحنا المتعبة ، يحضنها بصدق ، فنستدفيء ، وتهب فينا الحياة مرة أخرى ، نخفت فقط ، لكن نزهر من جديد ، ونتلون بحمرة الحياة من جديد ، وإن زارنا الأصفر يوما فليكن ، لون الفرح أصفر ، ولو السرور أصفر ، كما لون المرض تماماً ، لكن شتان بين الظهورين !
أحيانا ، لا يكون طبيبنا سوى من نحب ، لا يكون غطائنا الوثير مثل ذراعين محبان ، نحيا بكلمة ، كما يمكن جداً أن نموت بالصمت ! 

السبت، 15 أغسطس 2015

8- ضبابي !!

عندما يصبح السكن غربة ، ويكون الحضور مؤرق كالغياب ، هنا يدعو الأمر للهدوء والتأمل !

متاريس الكون لا تسير فجأة ولا تقف بنوبة قلبية مفاجئة !

لا يولد طفل من كلمة حب فقط ! ولا يموت الخارق في زهوة انتصارة بلحظة خاطفة !

وإن حدث ، من باب المعجزة والهول ، فإنه شبه مستحيل في عالم الشعور .

لا نكره فجأة ولا نحب فجأة ، ولا توجد عصا سحرية تجعلنا في لمحة عين بشراً آخر .

نتوسم الخير فيمن نحب ، نمنحهم من أرواحنا ونورانيات أنفسنا ، نسكبهم كترياق النجاة بقلوبنا ، ونجمعهم في درة القلب ، كإكسير نادر ، نرفعه على التيجان ، ونهيء له العروش الوثيرة ، ونقيد له من الحراس والخدام من يعفون عن ذلات الأحبة ليل نهار ، ويرتقبون ظهورهم ظهور البدر بعد ليال سرقت فيه الغيوم نور السماء ، فنتهلل بهم ، ونقيم لراحتهم كل عزيز ، ونهب أنفسنا ملوكا وعبيدا على حد سواء ، نبدل الثياب كي نرضيهم ، ونتصنع ما ليس لنا كي يحتفون ، ونحتقر ما يحتقرون ، ونكرم ما يحبون ، ونجعل وسم حياتنا تلك الألوان التي يتلونون بها صبيحة يوم أو ضحى نهار !

ثم !

يرهقنا التعلق ، يؤلمنا هذا التجاهل المتعمد ، عندما يبدأون في دهس قلوبنا بلا خشيبة ولا ريب نرتاع ، كيف نصبح غرباء في أوطاننا ؟ قلقون في أماكن السكن ؟ كيف يصبح شبح وجودهم متعب ومؤلم كطيات الغياب ؟ !

وقتها التحرر من كل شيء ، منهم أول الأشياء ، من الخوف ، من الحب ، من الأحلام أحيانا كثيرة !

نخلق لأنفسنا مخاوف جديدة تكبلنا ، وفرساناً آخرين جديرين بالوجود ، نضع القيود حول رقابنا لنتعلق ، بعد أن تعلقت بالأمس بلا وعي منا ، نكسر قلوبنا بأيدينا ، قبل أن يدهسوها بأرجلهم ، نعتاد الفقد ، ونصادق الوحشة ، ونمضي عهدا جديدا مع الألم ، وتصبح أوجاعنا حلفاء نهار، بعد أن كانت أشباح ليل  .

تعيد ترتيب أشياءها ، مطبخها والزهور ، رفعت لوحات التقويم عن حائطها المزهر ، وضعت ساعة جديدة بلون قرمزي فاتح ، بدأت ترتب يومها بشكل أفضل ، لا تدع وقتا لنفسها تكتب فيه خاطرة يلوح فيها ذكره ، صارت تنشغل عن أوقات غيابه وحضوره ، صارت تقرأ أكثر ، وتبدع في حلواها أكثر ، منذ عدة أيام طرأت لها فكرة ، لماذا لا أجرب المخبوزات ؟

كتاب جديد به صنوف عدة ، تبدأ بأيسرهم ، رغم أنها المرة الأولى لكنها تبدع ، يزداد ولعها بالخبز ، رائحة المعجنات المقلية تصل بيت الجيران ، صادقت الأطفال ، صاروا ولعاً جديداً وشغفاً جديداً تكتشف بها نفسها يوما بعد يوم .

يصل كتاب جديد عن المعجنات المحشوة المالحة ، يأتي به الصبي إليها ، تبدأ بتجريب الصنف تلو الآخر ، صار لها جمهور من الصبيان وعصفوات الحي ، يتحدثون عن براعتها في رسم الحيوانات بالعجين .

خصصت للصبية يوم الأحد ، وللعصفورات يوم الجمعة ، في الصباح الباكر تحضر العجين ، تراجع الوصفات ، تنظم جدولها ، تبدأ في إعداد المربى ريثما يبدأون في الظهور ، يلتفون حول طاولتها المستطيلة ، تمنحهم أطباقا بألوان ملابسهم يوما ، وألوانهم أرواحهم آخر ، تعلمهم كيف يرسمون أسدا وفيلا وقردا !
وتعلمهن كيف يزين الطبق بفراشة وعصفور ووردة !

تضع الحيوانات أو الفراشات والزهور في الفرن ، ينتظرون على أحر من الجمر خروج العجين مخبوزاً شهياً ، تعلمهم نظام المائدة ، يلتزمون لها كفريق أوركسترا رائع ، تزين أطباقهم بما لذ من المربى الطازجة ، ويصرخون فرحا حينما تطل رسوماتهم من الفرن شهية وجميلة !

عاد في تلك الظهيرة ، كان الأطفال بكل نظام يجمعون أطباقهم ويغسلونها ويغسلون أيديهم ، لم ينتبه لرائحة الخبز ولا شهية المربى ، أثاره كيف يضم هذا المطبخ الصغير كل أولئك الصبية ؟ لم يعلق ، مضى في طريقه ، فكر في سؤالها من هم ؟ ثم وجد الأمر لا يستحق التوقف !

لم تلحظ عودته ، كانت فرحة بالأطفال إلى حد كبير ، عزمت أن تعلمهم فن العجين ، أن تجعلهم الأسبوع القادم يجربون الأمر بأيديهم .

خرجت من عالمه تصنع عالماً لها ، تصنع وطناً آخر لا ينافسها فيه الضباب والرمادية والمواقف المائعة ، سكناً لا يؤرقها فيه الخوف ولا يهددها فيه شبح الفقد أو الغياب ، آثرت ألا تعرف الكثير عن الأطفال ، ألا تغوص في تفاصيلهم وأن تهتم بتفاصيلها هي ، ألا تذوب فيهم فيصبحون جلاداً آخر ، وسجاناً بلا رحمة !


إن من يطلب المصباح في وضح النهار حتماً سيخسر الرؤية !

سراديب أوهامه الملتفة أوصلته إلى دهليز خطير لم يكن بلغ جماله من قبل ، عشقه التصميم الإليكتروني للمواقع !

شغف جديد ؟

كلا ، بل قديم قدم حبه لها وانشغاله بها ، لكنه مثل كل شيء في حياته اندثر فجأة تحت الركامات التي تظهر في حياته فجأة فيلهث ورائها كالطفل المشاكس حتى يبلغها ويفتر بطبعه عنها فجأة أيضا ! أو لربما ، تلدغه !

وكأنه اكتشف نفسه من جديد !

كانت خطة المعالج أن يحاول اكتشاف نفسه واكتشافها ومحاولة ايجاد طرق التلاقي !

لكنه لم يكن يبحث ، كان يغوص وفقط !

انشغل بالأمر ، كعادته ، غاص فيه واحترفه ، أنشأ عالما موازياً ، عالمٌ لا تسري فيه رائحتها ، ولا تراوده عن نفسه خصلات شعرها الغجري ، يراهن ، ويخسر رهاناته ، يسكر من شدة العمل لا من نشوته ، يتصنع الانتشاء والسكر ، يغفو ، ويحاول رفض كل فرص الإفاقة وتجاهلها ، صار يلاحظ تشاغلها ، يزعجه الأمر ، لكنه يتجاهل هذا الانزعاج !

تعمد التأخر ومراقبة البيت من بعيد ، كان يعرف أنها حينما ترتبك تراقب الشرفة ، هاله أنها في العاشرة أطفأت نور غرفتها ، ثلاث ساعات تالية من الترقب أن يراها تدور ! لكن لا شيء يحدث !

كاد يجن !! هرع إلى البيت فإذا بها غارقة في النوم ! لم ينم .

قبيل الشروق استيقظت ، طقوسها لليوم صارت غريبة عنه ، تصلي !!! لم يعتد رؤيتها تصلي ؟ لعله لم يكن يلحظ ، هل كانت تصلي من قبل ؟ لم نتحدث في الامر أبدا !
حتما ستشرب القهوة ، وربما تدخن سيجارة ، الوقت مبكر جدا ، هي عادة تفعل حينما يؤرقها شيء فتستيقظ قبل موعدها .
لم تفعل ، شربت كوبا من اللبن ، جلست في الشرفة بهدوء تتأمل الشروق وتبتسم ، تدون شيئا بمفكرة صغيرة ما تلبث أن تقطع الورقة وتعلقها بمكان ظاهر في المطبخ ، الحائط مليء بورق مماثل !

تقرأ بكتاب عن الهندسة المعمارية !!!
ما هذا ؟ منذ متى تقرأ شيئا ثقيلاً مثل هذا ؟ تدون ملحوظات بالكتاب ! ويغلبه النعاس هو فينام على أريكة في مقابل شرفتها !

بهدوء أسبلت عليه غطاء رقيقاً ، لم تمسح جبيه ولم تبتسم ، لم تحكمه عليه ولم تهتم بما يلبس ؟ فعلت الأمر بلا روح .

في المساء كانت أنهت كل مهماتها ، اعتادت ان يغلبها النعاس وأن تنام دون أن تنتظر أين هو ، صارت أفلام الكارتون رفيقا جديداً كي تتعرف أصدقاء أصدقائها الصغار الجدد ... فتنام أمام التلفاز كالصغار !

أما هو ، فقد كان مشوشاً ، وكان غير مفهوم ، كان يهتم ولا يهتم ، كان ينزعج ولا ينزعج ، كان يشتاق ولا يشتاق ، كان لا يعرف ماذا يريد ، كان فقط يغوص في ضبابيات متلاحقة ! 

7- رمـاديــة !!

 " صباح أمسٍ كان هنا ، انخلع قلبي قلقاً لأنه تأخر ، انتظرته مثل اللصوص حتى الفجر أخشى أن يعرف أني صاحية ، تعبت وغلبني النعاس والهم ، دخلت سريري ، لا ينام جفني خوفاً أيضاً ، كيف له أن يتأخر وهو يعلم أني لا أنام سوى بحضرته ؟ أشعر صوت سيارته من بعيد فأنام ، الليلة كنت مشتاقة إليه جدا ، لا جديد أشتاقه دوماً ، دخلت سريري وانتظرت ، أدرت فيلما يلهيني ، القلق يأكلني ، والنعاس أيضا ، لا صوت يأتيني من بعيد ، لا رسالة منه ، لا يجيب هاتفه ، قلبي يأكلني حقا ! لماذا يأكلني في كل مرة مهما جفا ؟ لا أعرف ، أدور في الغرفة ، أطمأن للمرة الخامسة أن الأبواب مغلقة ، أتفقد الحديقة من الشرفة المشرعة أمامها ، السماء جميلة الليلة لكن يبدو الضباب من بعيد سيكسوا الفجر ، تفقدت المطبخ ، قررت أن أحضر له شطيرة يأكلها عندما يعود ، بعض العصير ، وتفاح أخضر ، أعود لغرفتي ولا شيء يتغير سوى دقات الساعة التي تصبح أكثر إزعاجا ! أندس في سريري ، يغالبني النعاس وأغلبه ، أسمع سيارته من بعيد تكسر شيئا على الأرض ، أهرع للنافذة ، يظهر نور السيارة من بعيد ، أترك نفسي للنوم هادئة !
لأول مرة يدخل غرفتي أول وصوله ! عطره يعبث في الحجرة ، يقترب ، أميز عرقه ، أبتسم وأتقلب كي لا يكشفني فيهرب ، يا لحظي داعب شعري ، ثم خرج ، نمت هانئة ، أتنفس عبير عطره طوال الليل . أقصد ساعات الفجر حتى الصباح !

لكنه في المساء ....كان غريباً .... كان داكناً ، كان خانقاً ، كان مثل دخان السماء ورطوبة الصيف ! "

لا أحد يعرف ما يدور بخلد امرأة عاشقة إن أصابها اليأس والتعب ، لا أحد يعرف كيف يصيبها الشيخ والألم والإرهاق ، فتذبل روحها ، كوردات الخريف البائسة في مطالع الشتاء الغائم !!

تصارع شموس القلب التي تحنو على ذاك الصقيع الذي يجتنف روحه ، تعشق سواكنه الهادئة الباردة ، تعشق أن تطل بها كالشمس في عتمة الشتاء ، لكنها صارت تنطفيء يوما بعد يوم ، صار البرد يتسرب لروحها أيضاً إذ لا تجد مدفأهُ ليلا تسطل إليه ! كيف لهذا الرجل أن يبحث في ركنات الغيم عن المطر والنهر متدفق تحت قدميه !

عجيب أمر الرجال !

تَـعِـبَـتْ ، أما يحق لها أن تتعب ؟ صارت تصنع لها ناموساً آخر تشغل به نفسها عن نظم أكوانه المتوازية والمتضاربة .
لا تعرف هل تحنو للمسته العفوية التي تكشف بعض ود لها ؟ أم تستسلم لأنياب الوحشة والقسوة الزرق ؟ يطلون عليها من بين أفواه الغياب ، ينهشون كل ليل هذا الغزل الصوفي الملون الذي باتت تحيكه من أجل طفل ! طفل قد يجيء لأب مجنون وقد لا يجيء ، صارت ترسم لذاك المحاك خططاً بديلة فتنقض الغزل بعد شبه تمام ، ثم تضيف بعض الأحمر قد يناسبه إذا حولت الغزل من سترة بأزرار صفراء إلى كوفية ، ثم إن أوجعها الفكر وضعت بكرات الصوف على الطاولة القصيرة وصرخت فيه بهنّ ، كأنهن مرسال الليل الذي لا يكشف السرّ .

في الصباح التالي قررت صنع بعض الحلوى ، صار ناموساً آخر لعالمها الخاص ، صنع الحلوى ، هي لا تأكل الحلوى ، ولا تحب السكر ، لكن رائحة الحلوى تجعلها من جديد برتقالية ، طفلة بضفائر بنية تطاير مثل نسيم الصبح ، تبتاع من ذاك المحل البعيد أنواع فواكه عدة ، تضع القدر فوق النار مع السكر وتطهو الفواكه ، وتنتشي برائحة المُـربى .

مطبخها الصغير مليء بألوان عدة ، قوس قزح الذي يتراتب في ألوان الأطباق والكؤوس ، أكواب ملونة ، وأخرى شفافة ، لا يهدأ بالها حتى يكسر لمعانها ضوء الشمس الناعس المتسلل من نافذة تماما كما تمنت أن تطل على أحواض زرع فيها ما شاء الله لها أن تزرع من أعشاب تساعدها في فن الطهو ، وزهرات تجمل فن المطبخ ، ألوان ألوان تسرق عينك ، لكنها برغم ألوانها الحاضرة الزاهية كانت ...... رمادية !!!

أسابيع تمر وأيام تجيء ، لا تشعر بالوقت داخل مطبخها ، عودت نفسها التعب طوال النهار في تنظيم الصحون بتراتب مخيف ، وتلميع كل الكؤوس يومياً ، وعلى حسب الفواكه المتاحة تكن الحلوى ، تضعها في برطمانات شفافة ، بنفس القدر ، بنفس عدد الملاعق ، بنفس الحب ونفس الأنفاس المنتظمة ، تغلقهم بإحكام كامل ، وتضعهم مختلفين ، يظهر تضاربهم جمال ألوانهم ، أغطية جميلة ، تفتح نفس الرائي للأكل ، ورائحة فواحة ، تصيدك من مترات عدة ، تذكرها الحلوى بطفولتها ، تذكرها بأمها التي كانت تصنع لها الشطائر كل صباح حتى لا يقرصها جوع الظهيرة بين الأقران ، ترفع شعرها خلف رأسها تماماً كأمها ، وتبدأ عزفها الخاص ! ( ينهكها التعب طوال اليوم ، فتغيب في موجته نائمة لا تشعر بأطراف أصابعها من كثرة العمل ، فلا تنتظر مجيئه ، ولا تخاف بدونه ، ولا تشعر بأي وقت قد أطل هلاله ! )

مظهر المطبخ مكتمل أمامها ، شكل المربى يشهي ! تجمعهم في سلة دراجتها وتجري ، أين تذهب بهم ولمن تعطيهم ؟ هي نفسها لا تعرف ، تتوقف فجأة فتناول أحد الجيران ، أو تلمح نظرة اشتهاء في عين طفل فتناديه ويصير تعارف قصير بينهما فتسأله عن مفضلته ؟ هل يختار الشكل أم يود معرفة الطعم ؟ كانت لا تأبه بالإجابة ولا تفسرها كانت تمد يدها للسلة وتناوله ما يشتهي ، يبتسمان وتمضي !

يتحدثون ، الناس لا تكف عن الحديث مهما حدث ومهما صار ، هل هي مجنونة ؟ هل تتخلص من الحلوى لأنها مسمومة ؟ لكنها تبدو امرأة رقيقة ! لماذا قد تفعل ، الأيام تمر ولا أحد يشتكي من حلواها ، بل إن من ذاقها مرة ينتظرها في المرة القادمة ، ظن بعض التجار في باديء الأمر أنها تقوم بالدعاية لدكان جديد ! هل ستكون منافسة لنا على لقمة العيش ؟ لكن العجيب أن الاستطلاعات كلها باءت بالفشل ، إنها لا تدعو أحد ولا تطلب المقابل ! فصاروا هم أنفسهم ينتظرون أن تمر بابهم ، تتبضع أي شيء كي يسألونها إن كان لديها فيض من حلواها ، ولم تكن ترد سائلاً !

صار الصبي في المتجر البعيد صديقاً مقرباً ، خاصةً عندما اختصته بأجمل مذاقات حلواها ، كان يسكن على مقربة منها ، طلب منها يوماً أن يكون مساعداً لها في مقابل الحلوى ، عرضت ألا يفعل وتعهدت بنصيبه المحفوظ ، لكنه أصر أن يفعل ما يستحق مقابله الحلوى ! وافقت !

يحضر الفاكهة صباحاً ، ثم يمر قبيل العصر ، يتشمم رائحة جمالها من بعيد ، يخبرها أنه يجوع من الرائحة مهما أكل ، تضحك ، تعجبها فصاحته على صغر سنه ، تعطيه نصيبه وتهم بالخروج لتوزيع البقيه ، كلٌ ورزقه !
يتحرك الصبي كرجل راشد ، بحسم يقف أمام الباب معلنا حمايته لها من متاعب الخروج ، يعلن أنه سيتولى التوزيع ولكنه سيحتاج دراجتها ، ترفض ، صداقتهما الآن تمنحه القوة أن يرد بحسم ... " لقد قررتُ "
يعجبها اعتزازه برجولته المبكرة ، تبتسم ، تراه كطفلها ولا تعرف كيف يتولد ذاك الشعور أنه ابنها على الحقيقة ، أن بينهما حبل سري خفي ، أنها شعرت بذات الأمر حينما رأته أول مرة في المتجر ، روابط الروح تفاجئنا !

قبعة تبدو نسائية ، تقص منها الريش المجنون ، وتعدل مظهرها لتناسب طفولته النضرة ، يعتمرها ، تبتسم ، " الآن أنت مستعد يا فتى الحلوى " يؤديها التحية ويمضى مختالاً بألذ حلوى يحملها منذ فهم الحلوى !

عندما تقتل الحياة أجمل الأشياء لدينا ، نهرع من الخوف إلى أشياء أخرى ، نكسر تراتيب الحياة المفروضة كي نخبرها أننا غير معنيين بما تقضي علينا ، نرتدي ألواناً زاهية جداً ، نبالغ كثيراً في التبرج ، نستخد عطوراً نفاذة ، كي نخبر الحياة أننا مازلنا زهاة نضرين !
ونحن غير ذلك ، تتشح قلوبنا الأسود ، ونغوص برمادية أرواح أشباهنا ، ونذبل على غصن العمر الربيعي ، ويختفي من شدة الغيم قوس قزح !





في سكونه القاتل ، يرى ألوان مطبخها تزهو فيظنها كذلك ، يغرق في سراديب روحه الرمادية ، ويظن روحها مازالت تزهر بورد البرتقال الأبيض ، ليبتعد أكثر ، وتذبل أكثر ، وهو في غَيــِّه يتمادى !! 

الأحد، 9 أغسطس 2015

6- أزرق !

شعرها المبعثر فوق وسادتنا ... تموجاته المجنونة رغم نعومته القاتلة ... كانت دوما تحبه قصيراً يحيطط بدائرية وجهها الصغير ، وكنت دوماً أحبه طويلاً أشعر فيها بأنوثتها الثائرة في رقة ، كانت أجمل لحظاتي حينما يغلبها النعاس بجواري ونحن نتحدث أو تغلبها أحداث الفيلم فتنام ، وأنا مندمج بقصته ، أسألها شيئا فتهمس ، لحظات أكرر كلامي فلا تجيب ، أدرك وقتها أنها قد غرقت في حلمها الخاص ، ينتهي الفيلم وتبدأ حكايتي أنا ، كفتاتي المدللة ، كنت أغزل شعرها مساءً ، كنت أحيك من خصلاته أحلاما وردية ، أو كستنائية كلونه الخاطف ، كنت أصففه وهي نائمة تتقلب ، أكاد أصرخ لأنها أفسدت أمواجه ، أضع يدي على فمي بسرعة وأكتم أنفاسي ، ثم أعيد الكرة مع الجانب الحر من شعرها ، ملمسه يقتلني ، أجدل ضفائرها التي غالبا لا تصمد للصباح ، كنت أسرع إلى جوالي أصورها قبل أن تفقد الجديلة معالمها ، ثم أضمها وشعرها تحت ذقني وأنام ، أتنفسها ... وتغوص هي بصدري وقلبي أكثر وأكثر ..

هذا الصباح عندما عدت ، كنت نائمة ، مازال وجهها بريئا حين تنام ، ومازال شعرها مشعثا حين تنام بتموجاته المجنونة ، أسرتني ... كأول صباح أرى فيه أمواج شعرها تداعب الوسادة ... كانت تبتسم لشيء ما ، لربما كانت تحلم ... خطوت للوراء خطوة ، ظننتها صاحية ، تقلبت كما تتقلب دوما حينما لا أنام بجوارها ، تتقلب كثيراً ، أعطتني ظهرها ، كأنه إذن للدخول واختلاس النظر إليها ، اشتقتها ؟ نعم ... بشدة ... اشتقت شعرها المجنون على وسادتنا ، اشتقت أن أصففه كما أرى ، اشتقت أن أثنيها عن المقص كلما اشتدت حرارة الجو ، اشتقت أن أداعب شعرها وهي نائمة ، تشعر بي فتفتح عينها وتبتسم بدلا وسحر وتعود لحلمها من جديد ، لم أستطع منع عنفسي عن هذا المخمل الوثير ، عن الكستناء اليافع ، مددت أصابعي لسلاسل شعرها البني ، يسري في يدي كالنهر ، هممت بالجلوس بجوارها ، بضمها ، بطبع قبلة ولعة على جبينها الوضاء ، لكنني تذكرت أنه لا يجب أن أفعل ، لا يجب أن أكون هنا.
قبضت يدي عنها ... ورحلت !

تسللت إلى الحمام الخارجي ، اغتسلت من طول الطريق ، تركت نفسي تحت زخات الرشاش ، أغسل رأسي منها ، فأذكر كيف كنت أغسل شعرها ، كيف كان يذوب في يدي تحت الماء ، كيف كان يخالط أبيضها فكان حقا " الضد للضد أبين "
نفضت شعري ، أنفض ذكراها من رأسي ، أنفض نعستها وضحكتها وسحرها ودلالها ، أنفض قلبها الرقراق وشعرها المخملي الساحر ، أنفض نعومتها ، أنفض حبها المتوهج في عينيها ، أنفض صخبها ودمعها وهدوءها وتمردها وكل شيء لها ، وأنفض أني أتجاهلها ، وأنفض قلبي الذي يقرصني ويؤلمني ، وأنفض .... قطرات العرق التي أصابتني تحت الماء !

" تقييم اختبارك يشير أنك أزرق ! "
= وماذا يعني هذا ؟
" يعني أنك شخص ودو محب للسلام ، رائق ، تمنح وتسامح وتحب ، تفضل الود عن المشكلات ، قلبك رقيق لا يقسو بهذا الشكل "
= ماذا تريد أن تقول ؟
" أقول أنك في صراع لأنك لا تصالح نفسك ، يجب أن تسير تلك المرة وراء قلبك ، وقلبك حيث اشتاق لا حيث تألم يقبع "
= .........................
" لماذا تهرب من عينيها ؟ ولماذا تهرب من قلبك ؟ لماذا لا تذهب إليها راكضاً تلقي بنفسك بين ذراعيها ؟ "
= لم يعد يصح ، لا أستطيع ، الأمر معقد و ...
" لا يصح إلا الصحيح ، الأزرق كالبحر ، يطفيء النار وأنت تشعلها ، متقلب كالمحيط نعم لكنه لا يظل هائجاً طوال الوقت ، لا يصيبه المد فقط بل المد والجذر ، أنت بحاجة للجذر ، لأن تجذبها ثانية ، لأن تدع شطآنها تضرب أمواجك لمرة أخرى "
= أمواجي قصيرة جداً لا أقوى على ...
" أعرف ، انت في جذر الآن ، دعها تقترب في ليال قمرك الفضي "
=لكن ... الأمر صعب جدا ... أنت تعرف كل شيء ... أنا خائف .. منها من نفسي من كل شيء ... الأمور الضبابية تزداد ضبابية حولي وأنا لا أريد أن ........
" لا تضع العراقيل أمام قدميك ، هي ليست من ضبابياتك وأنت تعرف ، تخاف أن تؤذيها فتقتلها ، تتلذذ بقتلها وموتها الساكن ، أنت تقتل فيها كل مخاوفك وضبابياتك ، أنت بالحقيقة تقتلها وتقتل نفسك ، أنت تقتل آخر خيوط النور في طريقك اليقيني الوحيد ، لماذا تعاقب نفسك هكذا على أفعال لم ترتكبها أنت ولا هي ؟ اطو صفحات ماضيك ، اطو هذا الخوف واقتل أشباحه الليلية ، اليوم قدت سيارتك من طريق غريب أليس كذلك ؟ "
=....................
" كنت تخشى المرور من هذا الطريق ، صرخات الموت فيه عالية ، ضباب الماضي يخنقك هناك ، لكن ماذا قلت عن ذاك الطريق ؟ أنت لم تذكر أي شيء به سوى جنون رائحة الأخضر ، تذكرتها وتذكرت نفسك ، تذكرت كيف كنت وكيف أنت ، تذكرت أنك تريد أن تكون مثلما تريد أو لربما ... مثلما كانت تراك ... لماذا برأيك تساءلت عن رأيها فيك ؟ الطريق أمامك يفتح ذراعيه لك لتخطو وأنت واقف تحاول التلعثم والتعثر بحطام الماضي المؤلم ! "
= ..........
يدور في الغرفة ، يقف أمام النافذة ، يطل على الحديقة الصغيرة التي تحيط المبنى ، ثم بحر الشارع الواسع في هذا الحي الراقي ، طفل يعبر الطريق مع امه بدراجته الصغيرة الملونة ذات الأربع عجلات ، لا إراديا يبتسم ، لا إرادياً أيضا يذكرها وهي تتأرجح بدراجتها الصغيرة وقلبه يتأرجح معها ، يلتفت فجأة ، يحاول إخفاء التبسم والتزام الجدية ،
= هل يمكن أن أعيد الاختبار ؟
" كلا يا أزرق ، لن تعيده ، أتدري لماذ ؟ "
يمد شفتيه أمامه = لماذا ؟
" لأنه المرة الرابعة على الأقل التي أصل فيها معك إلى ذات النتيجة "
= لا أفهم .
" لقد اختبرتك أكثر من مرة ، وفي كل مرة بعد ذهابك أراجع تسجيلات الحوار والحوارات السابقة ، أنت أزرق بامتياز ، أتعرف لون البحر قبيل الشروق ؟ أنت بنفس زرقته وقوته ، أتعجب من قسوتك المفرطة على نفسك ، كونها مفرطة ، أتعجب من قسوتك عليها ، توقعت أن تقسو لكني كنت أنتظر أن تفيق سريعا وحدك ، لكني أجدك تزيد في غيك وظلمك ، اقرأ هذا الكتاب حتى نلتقي الأسبوع القادم ، اسمع هذه الأسطوانة أيضا ، سجل ملاحظاتك أو ما انتابك مع كل مقطوعة موسيقى من فضلك ، أخبرني بأي شيء يطرأ ، أي أفكار متهورة تصيبك في الأيام القادمة "
= أفهم من ذلك إنهاء الحديث ؟ حسناً
" بل تفهم أني ألقي إنجاز هذا الأسبوع على كتفيك " 

5- برتقالية !!

نوارات البرتقال البيضاء تخترق الأخضر دوما بجرأة عجيبة تناقض براءة أبيضها الحيي الجميل ، أبيض ناعم مخملي متشرب بشيء من الأصفر ما يلبث أن يكشف عن تكورات صغيرة في عنقود الزهرة ينتفخ كحمل أنثى راشدة ، يتكور ويتكور كبطنها الدائري الشهي ، يخضر ثم يتسرب إليه أصفر يصطرخ ببرتقالية هائجة ، كضفائر فتاة في السابعة عشر من عمرها تعدو خلف الظهر في وهج الظهيرة .

هكذا ضفائرها ، وهكذا كانت تربطهم بشرائط برتقاليه وهاجة ، تمنحها نشاطا فوق نشاطها وتحملها شمسا وضاحة فوق جمال أبيضها !

شيء عجيب هذا الشعر حينما يتوغل في السواد أو يتمسك بظلال البنية العتيقة ، كستنائي كزهراتها ، كقرون البونسيان وبذور القهوة ، يخالط أبيضاً شمعياً تحت برتقالية شمس الأصيل ، يتوهج بلونها ولا يتخلى عن بنيته ، يعاند أهدابها وشفاها وكتوفها الثائرة على حرارة الصيف .

تعدو والنسيم يعدو خلفها ، يعاند تنورة قصيرة مختلطة الألوان ، هل تعقد اتفاقات مع الطبيعة ؟ أم أن الطبيعة تتلون بما تختاره صباحا من ملابسها ؟ أي اتفاق خفي بينهما يجعل قميصها أبيضا كالسحاب وتنورتها بموجات الأصفر والبرتقالي والأحمر والبنفسجي ؟

شرائط برتقالية وشعر كستنائي

تنقصها عيون بزرقة هذا البحر الذي تعدو حزاءه !

مثل الوهج ، ضحكتها المثيرة تجعلها تلسع آذان السامعين بنشوة أخرى ، تتسوق بعض الورد وبعض الكتب ، تنسى التفاح وبرتقال الصيف فتعاود الظهور بالمتجر البعيد من جديد ، ابتسامات حقيقة تحيط بها ، هل بهجة بطلَّـتها التي تشبه شمس الأصيل على مسافر يريد الراحة من عناء الطريق فتصالحه الشمس بالتواري خجلا خلف سحابة صيفية يحركها النسيم العليل من زهور الساحل البرية وملوحة البحر ؟ أم براءة تخترج حواجز أنوثتها لتهمس بقلوب الحاضرين فيدللونها كطفلة هربت للتو من محابس الكبار ؟ براءة يفتقدون الجرأة على العودة إليها سالمين من آثام البالغين المبالغين في الحزن والقهر والألم والخطيئة ؟ من قال أنها خالية من الحزن والقهر والخطيئة ؟ تنورتها القصيرة بموجات الخطوط الطفولية ؟ ضفيرتها الحرة ؟ أم شرائطها المهدلة من رقة بطتها ؟ أم أنه احمرار وجهها حينما تتوجه لهم بالسؤال ؟ أم مفرداتها البسيطة ؟ تفاصيلها الصغيرة الخالية من البهرجة اليومية التي يقابلونها مع زبائن آخرين ؟ أم أنهم يفتقدون عدم التكلف ؟ تلك البساطة في الحديث والتبسط ؟ تلك الأوجه الخالية من المساحيق والأقنعة ؟ لماذا تراهم لم يروا أن الحزن يمسح عن كل الأوجه المساحيق وعن كل الأجسام تلك الثياب المتعجرفة ؟
يتهللون بوجهها إذ تطل خجلة تطلب بشيء من حياء كأن نسيان أمر من أمورها الخاصة جريمة وإثم ، تريد بعض فاكهة من برتقال وتفاح ، يعرضون عليها التوت البري الأزرق أو الكرز متألق الحمرة يليق برقتها وإشراقها ، لعل البرتقال هو ما يناسب قلبها المتعب !

كان طبيب أغذية يلمح كثيراً أن لون الفرح برتقالي ، لون البهجة ، لون التفاؤل والأمل ....

امتلأت خزانتها بالأسود في ذاك الشتاء ، لعلها كانت بحاجة إلى قشرة جديدة تمتص الشمس فينمو قلبها من جديد .

باحتفاء شديد عاملوها ، برفق وصعوا الفاكهة في أكياس ورقيه ، أحضر لها صبي صغير يساعد أعمامه في البقالة كيس مختلف ، ملون بوردات رقيقة ، همس لها أنه للزبائن المميزين فقط ، ضحكت بشدة ،يغالب برتقال ضحكها كرز وجنتيها الخجلتين .

داعبت شعره القصير ، وخرجت شاكرة ، كطفلة حصلت على قطعة شيكولاتة مداعبة من بائع شيخ لضفائرها !

ركبت دراجتها ، الشمس لا تلسع ، شمس الأصيل تحتضن العابرين ، خاصة أولئك الذي يختارون الممشى الساحلي ، بين زرقه وتموجات السماء بألوان بين طيوف الظل وبين توهج الشمس ، تختلق بحراً آخر وأمواج أخرى ، ذاك السحاب الذي يشبه قميصها الناصع .... وهذا الشعر الثائر على ربطات الضفائر ، بين أهدابها وجبهتها وكتوفا تطل من قميص بلا أكمام ، يجعلها تشعر حقاً أنها مازالت طفلته ........ هو ؟ .......... أين هو !

أطل باكراً يحمل الحزن في طيات كنزته القطنية الداكنة ، داعب شعرها بهدوء وهي تصطنع النوم كي لا يهرب ،همّ بتقبيل جبينها ثم لسبب ما تراجع ، نزع يده ، تجهم ، خرج مسرعاً ، هل كان يخشى أن يضعفه الحب بقبلة صباحية كما كان يفعل ؟

لم تر وجهه ، لكنها شعرت بأصابعه فوق شعرها ، فانتعشت كزهرات الصيف التي تحارب حرارة الشمس في صبر وجلد وهدوء !

لا تنعم بالنسيم مثلما تنعم بلفحات الحرور ، لا تنعم بالماء إلا كالعطشي تلهث ، فلا تعرف لها برودة ولا طعم ، ورغم ذلك تظل باسقة ونضرة ، تحفظ نسمة الليل ، تتظلل بها لحرّ الصباح !