السبت، 16 مايو 2020

قبل نهاية العالم بدقائق!

أحدث نفسي أنه لربما ينجو العالم مما يحدث، سوف يتغير شكل العالم بعد هذه الجائحة، الجميع يقولون هذا، الجميع يزعمون أن الأمر لن يمر كما مرت حوادث سابقة، الأمر جلل، الأمر أعاد تشكيل القوى مرة ثانية، وأبرز الأدوار الأكثر أهمية من غيرها، وأبرز العلاقات المهمشة التي أصابتنا جميعًا بكسرات في أنفسنا، وقال للأباء كلمة الفصل أن الأسرة أهم من الشركة! وأن الإنسان أهم من المنظومة، وأن العلم أهم من الطعام!

قال لنا جميعًا أن تلك العلاقات التي كان بالإمكان التمسك بها كانت لتصبح طوق النجاة اليوم من هلاك نفوسنا من الوحدة قبل المرض، أن هذا الصديق صعب المراس لكنه مخلص الود أهم من كل الأقارب الذين لا تربطنا بهم رابطة غير الدم! ولا يعرفون عنا سوى تلك النكات السخيفة التي نمرر بها الوقت في المناسبات المهلكة لقوانا!
أن شخص واحد فقط يحبك، يحبك فقط، يحبك بصدق، يحبك من قلبه، أهم وأفضل من رصيدك البنكي، ومن عشرات المتابعين على الفيسبوك، ومن كل البشر الذين يرسموت بسمات سخيفة صفراء في وجهك من اجل الاجتماعيات الفارغة!
أن الاجتماعيات الحقيقية كانت طوق نجاة، ولم تكن إكليشيهات تتردد وفقط وأن أوفر الناس حظًا هم الذين تربطهم علاقات جميلة وصحية وسوية بأصدقاءهم وأقاربهم وعائلاتهم الكبيرة!

أحدث نفسي أنه لربما تحدث معجزة لم أكن لأشجعها يومًا لأني أود فناء البشر، أو على الأقل فنائي أنا شخصيًا، بلا رجعة، بلا أسطورة روح تطوف عقب موتي إلى الأماكن المحببة أو إلى الأشخاص المفضلين، إنني أفقد الحياة وأنا على قيد الحياة، أنا فقط على قيدها، أتظاهر بكل متعها ....

هل تعرف ماذا أرتدي الآن وأنا أكتب تلك الكلمات الكاحلة؟ ألبس فستانًا أبيض بزركشات زرقاء، ورسمة نخيل هادئة جميلة، أضع الكحل، وبعض الألوان فوق جفني وأحمر شفاه بلون بنفسجي مشرق جميل، صففت شعري جيدًا في المساء وأصبحت محافظة على مظهره بلا تجعيدة واحدة، ولا كسرة خفيفة، ألبس العطر، عطري المفضل مزجته مع عطر أمي المحمل بنسيم الفواكه والسكر، أظفاري مطلية بلون مشرق جميل يناسب بشرتي الفاتحة، والذي يراني أجلس هكذا على المكتب يظن أن تلك المرأة لابد تشع بالحياة وتحمل في قلبها كل المرح والحب والأصالة (نظرًا لثوبي والكحل) والحياة المشرقة الجميلة!
لكن كل هذه خدعة لطيفة، أحب أن أخدع بها نفسي قبل أن أخدع بها أي أحد!

أحدث نفسي، أنه لربما ينجو البشر من هذا، أعرف أنهم سيعودون حثالة كما تعودت منهم، وأعرف أنهم سيأكلون الضعيف ويبصقون الفقراء من أفواههم كما اعتادوا فعل هذا بكل عجرفة وغرور، لربما تنجو الأماكن الجميلة، ولربما يبقى بعض الوقت قبل الفناء محمّلًا بألحان الموسيقى الجميلة!

أحدث نفسي أنه لابد إن فتحوا المجال للطيران أن أبدأ رحلتي المؤجلة إلى مدينة الحب والسحر والجمال، ليست باريس لكنها روما، مدينة التاريخ والفن والموسيقى واللوحات الجميلة والجيوش الكاسرة، أن أذهب بخطوات ثابتة إلى تلك الساحة الحميمة التي تصدح بألحان أندريه ريو، أن ألبس فستانًا فضفاضًا ربما مثل الذي أرتديه الآن، وأن ألبس نعلاً مفتوحًا بخيوط رفيعة وكعب مريح، وأن أضع القليل من التبرج والكثير من العطر، أحمل في يدي حقيبة صغيرة بها فقط هويتي وتذكرة الحفل وبطاقة البنك أو تذكرة الحافلة، ولها يد طويلة من سلسال فضي، وحجاب قطني مريح محكم على رأسي .... 
وأن أجلس في الصفوف المتوسطة، أرى كل الساحة، لست بالقريبة جدًا فأنزعج ولست بالبعيدة جدًا فلا أرى الحدث بوضوح ..... أن أجلس وحدي على طاولة مستديرة، مع أناس لا أعرفهم، ربما من الطليان وربما من اليونان، أناس يتمتعون بخفة الروح وحب الحياة، يلبسون ألوانًا جميلة، ويمدحون ثوبي الغريب عن ثقافتهم، أناس يرحبون بك بلطف ولا يضعون أقدامهم عنوة في مساحتك، يندمجون من اللحن، ويتركون لك فسحة في ملكوتك الخاص حتى تتمايل وترقص وتسكر من روعة الألحان!
سوف أجلس بهدوء، وسوف أنفعل، وسوف أقفز وأصفق كثيرًا، وسوف أذوب في تلك الموسيقى الساحرة، سوف أرقص كثيرًا حتى لو لم أتحرك من على الكرسي، وسوف يهب علينا نسيم عليل جميل يحمل رائحة الماء والزهر!
وعندما ينتهي الحفل، لن أهرع للحافلة ولا لسيارة أجرة، سوف أمشي، سوف أمشي كثيرًا كي أهضم كل هذا الجمال في قلبي، كي أعطي فرصة لهذا القلب أن يوزع كل نغمة على كل خلية في جسمي، سوف أمشي كي أمتص كل المتعة بكل جسدي وكل روحي وكل نقطة فيّ، سوف أسير بخطوات بطيئة ساكنة منتشية وثقيلة، مثل هذا الذي أكل طعامًا شهيًّا ودسمًا جدًّا ومن فرط لذته قرر المسير كل ينصت لكل حركة في معدته، وكل تصفيق حار في جسمه يشكره على تلك الروعة التي تمشي الآن في عروقه توزع اللذة حيثما أرادت أن تصل! من أخمص قدمه، إلى سويداء روحه المشتاقة!


أحدث نفسي أنه إذا نجا العالم من تلك الجائحة، سوف أسافر إلى روسيا، ربما أوكرانيا، أو أي دولة أخرى تقرر فرقة البالية المحببة أن تقدم فيها عرض بحيرة البجع لتشايكوفيسكي .... سوف أرتدي فستانا هادئًا، بألوان مشرقة، ربما بلون واحدٍ، لن يكون ضيّقا كما هو المفترض في زيّ الأوبرا، ولن يكون فضفاضًا كفستان روما السابق، سيكون بين بين، ثوب سهرة راقٍ لكنه مريح، حذاء على الأغلب أسود لكنه بلا كعب عالٍ، وحقيبة بيد قصيرة تسع قبضة يدي، غالبا ستكون من الجلد، وسترة صوفية مغزولة تشبه سترات المراهقات البسيطة جدًا، اليوم سوف أجلس بنهاية الممر، بالكراسي العليا كي أرى كل المسرح، سوف أجلس بابتسامة لن تفارق شفتي حتى أن عضلات وجهي ستؤلمني لكني لن أستطيع التوقف عن التبسم، سوف أجلس بوضعية واحدة شاردة كالمسحورة، على رأسي طير جميل يستقر كما لو أنه بنى عُشًّا ووضع بيضًا! هذا الفن جميل، سوف يعلق الناس على الرقصات، قد يصفقون، قد يتململون، قد يأخذون انتباهي للحظة، سوف أنظر لهم كالمسحورة، ببسمة تعلو شفتي، بعيون هادئة لأن قلبي مسمتع جيد ومتفرج عاشق، سوف لن أفهم تعليقاتهم، سيحاول أحدهم أن يشركني فيترجم ما يقوله بأي لغة يظن أني سأفهمهما، سأفهمهما، لكني سأبتسم ولن أجيب، قد أهز رأسي على أقصى تقدير لكنه بعد التفاتي لساحة الورد، ومسرح الزهر، وعرض البجع! أنا في عالم آخر، أنتظر لقاءه منذ سنوات، أنت لا تعلم أي شيء عن قصتي، لا يهم، لا شيء يهم الآن سوى استمتاع قلبي وأذنيّ وعينيّ بالحدث الجليل!
سوف ينتهي العرض، لن أصفق، لن أحدث أي صوت، سوف أبتسم أكثر، سوف أرى أن التصفيق مهانة لكل هذا الجلال، قد أفيق، قد أصفق مرة أو اثنتين مجاملة للضيوف، لكنني لن أتحرك قبل أن يوشك المسرح على الخلاء!

ماذا تفعل بعد أكلة لذيذة ملأت أركان معدتك وقلبك وروحك وتسللت إلى عقلك فأصابه الوجوم وصار مسيّرًا لا مخير ولا مختار ولا متحكم؟ نعم بالفعل .... تسير بحركة آلية .... تسير بقوة الدفع ... أسير كالبلهاء أبتسم للجميع، لا لإني أريد أن أبتسم للجميع لكن لإن البسمة ارتسمت كالوشم الحميم على وجهي المرتاح! إلى أي وجهة أسير؟ لا أعرف .... هذه ليست روما التي تسير في جوانب أعمدتها القديمة تشم النسيم وتملأ به قلبك الراضي تمامًا عن الوجود!

سوف أسير حتى أفرغ كل تلك الشحنات التي تمنعني التصرف الحكيم بالقفز في سيارة أجرة والعودة إلى سريري وإكمال العرض في منام لذيذ .....
سوف أستيقظ منتشية، أبحث في الصباح بخطوات حثيثة خلف رائحة القهوة، وخبز من الكورواسون الناعم المحمل بالشيكولاتة الساخنة، سوف أشتري زهرة أو اثنتين من زهور الأماكن الباردة .... وسوف ألتمس وسط النسيم البارد طريقي من جديد إلى نفسي! 

فلينتهي العالم غدًا ..... فلينته العالم بهدوء .... فلينته العالم بفزع ... فلينته العالم حيث وكيف يشاء ..... لقد وجدت غايتي ومهجتي .... فلينته العالم وأنا أضيع الدقائق في علكة سكّرها لا ينتهي!