الأربعاء، 8 مايو 2019

كاتبة مصابة باضطراب القلق المرضي! .... (16)

أنا خائفة!

لطالما كنت كذلك، ولطالما أشعر بذلك

منذ سنوات عدة حاولت أن أجبر نفسي على الخوف، أقصد على مواجهة الخوف، أخاف من المرتفعات فأجبرت نفسي على تسلق مأذنة تعدّ من أعلى مآذن القاهرة، مأذنة قديمة، تسلقتها حتى وصلت إلى الهلال النحاسي، أجبر نفسي على النظر لآسفل، ثم يهتز بي الحامل المعدني، قلبي يرتجف وأنا؟ عقلي عنيد!
أبحث عن خوفي وأواجهه، حتى قابلته، تجمع كل خوفي إلى كينونة صغيرة، إلى نقطة خوف واحدة، إلى رعب، إلى هلع، أن يرحل، أن يتركني هنا وحدي، أن يحدث له أي مكروه بسببي، كنت أخاف بشدة، أتركه وأمشي، خطوات بسيطة، قلبي لا يقو على الرحيل، كيف نرحل ممن استوطن الروح وسكن الفؤاد وصار له السؤدد؟ أم كيف نرحل ممن تشابه مع أرواحنا وصار نَفَسًا ونبضًا وقلبًا ينشر الحياة في تلك الشرايين الميْتة؟ الربيع أتى ريثما أتى! والشمس لم تخجل بعد إلا من بسمته، والجو عبير بأنفاسه الدافئة، وهدوء عينيه يُسكن كل عواصف عقلي المتعب، ويهدهد زمجرة قلبي الخائف ...
كيف أرحل عن بيتي؟ وجدت بيتي بعدما كنت تائهة لا أعرف من أنا ومن أين جئت وإلام أرمي؟! وجدت الشمس بعد أن أحرقني الشتاء وألهبني الثلج، الثلج يحرق أيضًا يا صديقي إن كنت لا تعرف!
تلك الصحراء التي تسير فيها لا تطل عليك إلا هبّات ولفحات، وقلبك طفل صغير خائف، تتراءى له أشباح الربيع كالسراب، صفير يصم أذنيك في تلك القاحلة، وهجير يدفعك إلى البحث حتى عن بعض الثرى لتلعقه، ثم إذا بك بجنةٍ مورقة، ونبعٍ صافٍ حلو، ونسيم معبق، وظلٍّ ظليل، وهدوء وعصافير، وسكون وأمن يسكن قلبك، إذ تجد بعد كل هذا الضياع كل شيء كل شيء يقول لك "أنا لك وحدك" تشرب من النبع، وتقطف ثمرة او اثنتين، وتنام قرير العين في الظلِّ الظليل، ثم من فرط المحبة والتقدير، ثم من فرط ما تشعر بجمال ما ترى عيناك، ثم من فرط ما تحتقر نفسك أمام كل هذا الجمال، تشعر أنك لا تستحق كل هذا، فتحافظ على الجنة من نفسك، تجوع وتعطش وينقض مضعجك من ليلك، وتحرقك شمس الهجير، ويلفحك ثلج الليل العتيد ولا تدخل الجنة، خوفًا منك عليها، وحرصًا منك عليها، ولربما في أوقات كثيرة تخاف بشدة أن تعتاد النعيم، وألا يصبح هذا النعيم لذاك المسكين عابر الطريق السائر يبحث له عن وطن .... فخاف أن يستوطن جنة رغم أنه كان يعرفها، رآها في كل أحلامه وهو يبحث، كان موقنًا بأنها موجودة وأنه مهما ضل الطريق سيجدها، وأنه كان يعرف حلاوة النبع قبل أن يذقه، وكان يعرف استلذاذ الفاكهة قبل أن يطعمها، وكان قد جرّب الظل الظليل قبل أن يلتقيا، كان يعرف كل المداخل والمخارج، وكان كلما وجد شجرة طيبة في محلها يربت على جذعها ويقول أقسم بجمال ربي وأنه البديع كنت أعرف أنك هنا، وكلما تراءت له فاكهة كان يشتهيها فيجدها أمامه، كان قلبه يسجد شاكرًا لمولاه الذي جعل التيه والأهوال مدخلًا لجنة طيبة الريح والمدخل والمقام، لم يكن القلب التائه ليضل موطنه، ولم يكن القلب الخائف ليهلك جنته ....
وقلبي كان باحث تائه، وقلبه كان الجنة والواحة والدليل!
قلبه كان تمثال للطائف الله الخفية، وبسمته كانت تمثال للطائف الله الجلية!
أرحل مسافة خطوة وأعود باكية، حتى كأنه أنكر علي محبتي وصبابتي، فصار خوفي رعبًا، وصار رعبي هلعًا، وصار هلعي عجزًا، وصرت أريد الاختباء، بأي مكان خارج صدره فلم أجد، كانت الصحراء هناك، وكانت كل الأشياء صفراء مقيتة، وكانت الأرض مسطحة لا دائرية، أسير فلا أصل آخرها، وأقفز فلا أنتهي لحافتها فأنتهي!
أواجه الموت إذ أواجهه بمحبتي وجفاه ..... واجهت الموت، قال لي فيما يبدو أنه بدا له قوتي وأنه ضعيف في مواجهتي ... هل كان يدرك أن أمعاء قلبي كانت بلا تحكم؟ وأن قلب معدتي كان بنبض مضطرب؟ وأن أجهزتي العصبية والجسدية كلها تعمل بلا اتساق ولا توافق؟ وأنني كنت أتقيأ اللاشيء وكل شيء؟ هل كان يدرك أن تلك العين التي تحاصره كانت لا تنام ولا تستقر بدون دمع وتورم واحمرار؟ هل كان يدرك أن هذا العقل الذي يدفعه في صدره عالق في علامات استفهام لا نهائية، وأنا هذا القلب الذي كان يتحلى ببعض الأمل صار يشك في وجود الممكن ناهيك عن المعجزة!
هل كان يدرك كل هذا الاضطراب إذ يصرخ في وجهي صرخة هارب من وجه الشمس؟ أو كان يدرك أن كل هذا الهدوء الذي يظهر هو قشرة هشّة لبركان يثور وأمواج تفتك بكبدي؟ إذ يستنكر علي فعل المحبة، وإذ يستنكر على نفسه أن يحبني ولو لحظة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق