السبت، 6 يوليو 2019

كاتبة مصابة باضطراب القلق المرضي! .... (23)

في لحظة ما تفرغ جعبتك، تضع كل كلماتك على نفس السطر متراصة ومتلاصقة، تجمع كل الحكايا بنفس الصفحة، وتحشد كل ذكرياتك بصورةٍ (فوتوجرافية ربما) منتقاة بعناية، وتهمس بكل ما يلخص مشاعرك (أٌحِبُّـكَ) وتجعل كل شيء كان يعني الكثير .... بذات السلة ...

يقولون لا تضع كل التفاح بسلة واحدة، إلا إن كنت تنوي الخلاص منه، فالأفضل أن تجمعه كله بسلَّة واحدة .....

تخرج كل ما لديك، تعاتب بكل العتابات، تتنفس، تحضن، تبكي، ترجو، تسامح، تتنازل، تضحي، وتقبل من نظيرك ما يقدم على سعته وقلته، على رقته وغلظته، تنوي بصدق أن تفرغ جعبتك وتتخفف من حملك!
تفتح قلبك على مصراعيه، لا وقت للألم، لا حد أقصى تخشى منه لإنك تخطيت ما فاق احتمالك منذ الأمس، اليوم تنوي أن تقطب هذا الجرح، أن يندمل، أن يلتئم، أن تتعافى!

تنتظر، بقدر ما يُسمح لك بالانتظار، بقدر ما تظن أنهم قد مجرد "قد" يأتون إليك بتفاحة واحدة، بكلمة واحدة، بشربة ماء واحدة تنقذ لهفة جوفك الظمآن!
تنتظر كثيرًا قبل أن تفرغ كل جعبتك أمامهم، تنتظر كثيرًا قبل أن تعطيهم آخر الفرص وتسلبهم آخر الآمال، تسمع الكثير والكثير من الكلمات المخيبة للأمل، كل الإشارات والدلائل التي تخبرك بأنك لم تكن أكثر من دمية في يد صغير يتقاذفها ويدهسها، بأنك كنت تفرح إذ يحضن الصغير دميته في المساء، بأنك كنت لا ترى كيف أن الصغار يلقون الدمى القديمة عندما تأتيهم دمى جديدة، أو عندما يملون! 
أنت دمية، مجرد دمية أعجبت طفلًا كبيرًا، دمية قرر بلحظة أنها لم تعد مهمة، لم يعد لها مكان على السرير أو فوق المكتب أو بين الأرفف، ربما لم يكن لها مكان في ذكرياته أيضا!
قلبك الأبله، قلبك الطفل الصغير الذي يحب كل شيء، يحب الحياة، يتمسك بأطرافها وكأنها كل شيء، قلبك الذي قد ظن أن الكلمة وعد، وأن الوعد سيف على رقبة الفرسان، قلبك من ألبسهم ملابس الفرسان ... فرح بتيجانهم الزائفة لممالك زائفة قالوا أنها منصوبة على قلوبهم، فأعطاهم تاجه الثمين، ودرته الوحيدة، وأسلمهم كل مفاتيحه ورضي (محتالًا عليه) بتلك التيجان (الفالصو) وتلك الألقاب التي لا تتعدى حروفها.

أنت دمية .... أنت لا شيء ..... أنت لم تكن من الأساس عندهم أي شيء سوى نزهة لطيفة وكلمات ومشاعر تأججت فجأة مثل حرور الشتاء، وزوت فجأة مثل نسمات نهار الصيف في كوكب تغير مناخه!

كان عليك أن تفعل شيئًا، أن تحفظ باقي كرامتك، أن تبعثر أخر الأمال، أن تنثر آخر تراب الجنيات فوق حلمك الوحيد الجميل وأمنيتك الكبرى .....

كان عليك أن تسمع الرفض بأذنيك ثانية وثالثة، وللمرة المائة، أن تراهم يغادرون، يبكون خديعة غيرك لهم، يتحسرون على حلم لم يكن لهم من البداية، كان عليك أن تتجرع كل تلك المرارة وحدك، أن يقتحموا مناماتك إن حدثت معجزة وخلدت للنوم، أن يأتون في حلمك فقط ليخبروك بأوجاعهم التي تسبب فيها سواك، أن تتألم لأجلهم، أن تتلصص أخبارهم، أن تأكل كل الحوامض وتجر أذيال عقلك الذي يتشبث بطوب الأرض كي لا يطيعك ولا يأتي معك، أن تحمل قلبك النازف وتذهب إليهم، تسألهم باستحياء، تسألهم بلهفة تجاهد أن تخفيها، تسألهم وتود لو تستأذنهم في أن تحمل كل هذا الوجع عنهم، تعيد السؤال مرارًا وتكرارًا ( هل أنت بخير؟) تأتيك تلك الإجابات اللزجة المحفوظة والمتحفظة، تبتلعها وتبتلع مرارة الإهانة من التحفظ وكأنك كلب أجرب يقترب من ساحاتهم الجليلة، تبتسم، تجبر شفاهك المأسوف على توردها باصفرار على التبسم، تعرف أن صوتك في الهاتف ينتقل إليهم ببسمته الحقيقية والزائفة، تجبر قلبك أن يصدق الشفاه في بسمتها، ترد بهدوء فقط كنت أطمئن.
تلك الردود القاتلة مثل حسنًا، اطمئن أنا بخير، لا تقلقي، تلك الردود التي تتكور مثل قطعة معدنية صدئة في يد متسول بائس بردان وحزين يتجرع الإهانة مقابل الحياة، تلك الردود التي كانت تلقى ولا يلق لها بالًا .... كل تلك الكلمات الجافة، والشائكة والجارحة في صمتها .... تجمعت ذاك اليوم في سطر واحد كخنجر قاتل!
تلك العيون التي لا تكذب أبدًا، قد طوتني بكفن الكلمات الكاذبة! قد حفرت لي قبري في بؤبؤها ولا تدري، قد سجّت جسدي البارد من الموت فوق المغسل، وألحقت الكافور ببشرتي الشاحبة، تلك العيون التي أشرقت منها الشمس قد غيبت شمسي، شاهدت فيهما الحياة وأزهرت، ويومها شاهدت فيهما جدثي ولحدي، تلك العيون التي وعدت لا تكذب، خدعتني، تلك العيون التي وعدت لا تغيب، ودعتني ورحلت!

كان عليك أن تنهي تلك الحياة التي تقطر على حافة القبر، أن تقطع هذا الشريان كي تموت أسرع، أن تكمل الطعنة التي تجعلك على حافة الموت والحياة أيضا، فلا أنت هنا ولا أنت هناك!
أن تلقي بنفسك في مقبرة تلك العيون، وأن تحضن للمرة الأخيرة ذلك الرمح من الكلمات الجارحة، وأن تملأ أذنيك بالرفض الموجه ضدك، وأن تقتل نفسك بسيف المواجهة القوي عوض عن سكين الإهمال البليدة، وأن تمني نفسك بعد الموت بالحياة الآخرة، بالانبعاث، وبالأمل الجديد، وباحتمالية الجنة والفردوس، وبأن الحلم دنيا والدنيا حلم قصير نفيق منه على الحقيقة، فلربما كان الحب القادم هو الحقيقة!
لربما!
رغم كل تلك التخاطرات، رغم اتفاقكما في كل ميل وهوى، رغم تكامل المحبة، ورغم رفعة المودة، ورغم اتساق العبارة عندما تكونا أنتما شطريها، ورغم تحول العواصف بين همساتكما إلى نسيم، ورغم تلك العيون التي تتعانق عند كل لقاء ولا تشبع أبدًا من هذا العناق، ورغم تلك الأيدي التي رسمت أخاديد التشابك كأن فراغ الأصابع مفصل ليملأ الآخرى في يد الحبيب، ورغم تلك العبارات التي تكملونها ضحكًا بدون كلام، ورغم تلك الموسيقى التي تحملكما فوق سحابة عابرة تخجل من البكاء أمام سعادتكما، ورغم تلك اللمسات التي تهبكما حياة غير الحياة، ورغم ذاك الدفء الذي لا يفتر، ورغم هذا الأمن الذي لا يهتز، ورغم هذا النهر المتفق الموصول بينكما بلا انقطاع، ورغم الكهف والجزيرة والبحيرة، ورغم سحابات الخريف، ونكات الصيف، وأحضان الشتاء، وضحكات الربيع المتراقصة، ورغم أندريه ريو، ورغم كلمات أم كلثوم (كنت بشتاقلك وأنا وانت هنا بيني وبينك خطوتين)، ورغم حفلة ياني التي عشتما حلم حضورها سويًا حاولتما ولم يكن الحظ معكما، ورغم صوت أديل الأوبرالي، ورغم النكات التي كان يلقيها في ترجمة كلمات أغنيتها وضحكاتك، ورغم عمر خيرت، ورغم القصائد، ورغم أحلام الهروب من البلد، ورغم تلك البلدة البعيدة التي وعدك أن تكونا هناك سويًا لكن قارب حياته لم يتسع إلا له وحده فألقاك في عرض البحر، ورغم تلك الهمسات الناعسة التي تقول أحبك بدلا من أحلام سعيدة، ورغم أن هذا الحب كان كل أحلامكما السعيدة، ورغم كلماته في الرسائل، ورغم لمعة عينيك إذ تقرأين، ورغم بسمته البلهاء إذ يشاهدك، ورغم مقاومتك في كل مرة تلتقيان أن تسرعي كل خطواتك، أن تختصرينها في خطوة واحدة، أن تكون الخطوة الثانية بين ضلوعه ورائحته وفقط، ورغم حماسه وهو يحكي موقفًا غبيًا، ورغم رجولته وطفولة عينيه إذ يرتاح إليكِ، ورغم صوته الناعس إذ يغلبه النوم قبلك، ورغم أمنياته المتعددة والمتكررة أن يحضر فطورك الملكي ويسافر معك إلى الدنيا، ورغم أنك أنت الدنيا، ورغم أنه النجم الوحيد في سماءك، ورغم أنكما تحضران الربيع حيثما تذهبان، ورغم أنكما تبعثان بالحياة، ورغم أنكما تدبان بخفة الأطفال في إشراق ولطافة وصخب محبب، يشرق في القلوب، كان على الحكاية أن تموت!

كان على كلمة النهاية أن تنزل
كان عليك أن تقرأها
رغم سواد ألوانها تقرأها
رغم صعوبة نطقها تقرأها
رغم عتامة عينيك عنها بالذات تقرأها
رغم أنه لا ورق هناك في الدفتر كي تبدأ قصة جديدة ... تقرأها
رغم أنه لا قصة بدون بطل .. تقرأها
رغم أنك كنت قويًا كي لا تنتحر وكانت النهاية مثل سكين بليدة تقرأها
رغم أنك تقتل نفسك إذ تقرأها .... تقرأها

تقرأها ... وتترك لروحك الحرية كي تتحرر من الحياة

تترك لها متنفسًا عند الموت بعدما كانت لسنوات معلقةً على حافته

تمنحها رحمة الموت .... وكرامة الدفن

تقرأها .... وتترك لنفسك متعة المجهول بعدما أفنيت رعبك من عتمته

ما الذي سيحدث بعد الموت

ماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ لا شيء! هل يشعر الموتى؟

يتمثلون فقط ما بعد الموت .... ينتظرون لحظة النشور ... ينتظرون لحظة الإحياء الجديدة .... ينتظرون النعيم

يقال أن النعيم للعاشقين الصابرين

وأنا عشقت
وأنا صبرت
وأنا مت
وأنا صحوت
وأنا أنتظر هذا الخلود
وأنا أنتظر إكسير الحياة الأبدية
وأنا أعرف الآن .... ما قتلك لم يكن ليحييك ... وإلا فلم قتلك ولم يبالِ؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق