الاثنين، 1 يوليو 2019

قدرية .... عبثية (2)

هل كانت تدرك كل تلك الفوضى الخلاقة التي تحدث في قلبه؟ هل تقصدها؟ هل تعنيها؟ هل تقصدها وتعنيها وتتجاهلها؟ هل لا تقصدها ولا تعنيها ولكن تعرفها وتتخطاها؟
ثم
كيف هي؟ كيف داخلها؟ هل يشبه خارجها المليء بألوان الربيع؟ وهل يشبه حمرة وجنتيها المدورتان؟ أو يشبه سواد عينيها الذي تقف فجأة أمامه لتدرك أنه بني، أو تتفاجيء أنه عسلي، أن لا تلحظه أصلًا مثلما قد لا تلحظها شكلها لكن طغيان الحضور يأخذك، فتدور حولها لتره ترى ما الوجه الذي يملكه هذا الطغيان؟

في المساء، يجلس وحده، يتساءل هل يا ترى وجد ضالته؟ لا يعرف، حقيقة لا يعرف، هي جميلة، هي رقيقة، هي ذكية، هي خلابة، هي كل ما كان قد تمنى وأراد، هي حلم، ليس صيفي ولا ربيعي ولا شتوي دافيء، هي حلم يمكنه أن يمنحك الأبدية وأنت على الأرض، ويمنحك خلود الآلهة وأنت فانٍ، هي بسيطة، مثل أي شيء بسيط ولكنه آخذ في البهاء، مثل تلك النجمات الصغيرة في السماء، لا تحدث أي فارق إلا أنها تلتمع في هدوء وسكينة، بنور بسيط، بنور صغير في السماء، كيف تجثم السماء على صدرك بغير نجوم حتى وإن سطع القمر؟ وكيف تنير النجمة قلبك بالأنس في ليلة كحلاء؟
ولكن!
لا يعرف عنها الشيء الكثير، هل تحب أحدًا؟ هل هي مرتبطة؟ بالطبع ليست متزوجة، لم تذكر أمامه أي اسم بدون صفة إلا اسمين لفردين من أسرتها على الأرجح أخيها واحد منهما، ولربما الثاني كان أخوها؟ لا يذكر، لكنه متأكد أنه لم يرها يومًا تحضر بصحبة أحدهم، أو ينتظرها أي مذكر عند الباب، ولا تتحدث أمامه مع مذكر بشكل ملفت أنه حبيب أو خطيب، يعرف بعد أيام بذكاء الصياد ودهاء الثعلب انها لا متزوجة ولا مخطوبة، يبقى أن يعرف هل هذا القلب الذي يقلب حياته رأسًا على عقب حر؟
كان معتادًا على عدة نقاط احترافية في العمل، لا يتحدث عن أمور شخصية، لا يبدأ بالحديث عن تلك الأمور التي تثير أسئلة شخصية، لم يتطوع أبدًا لنصيحة إحداهن أو حتى التعليق على تلك الثرثرات العابرة عن العلاقات من مجموعة النساء اللاتي يتبدلن على مكان العمل، ولم يحاول أن يعرف شيئًا، هل ذكرت لك أنه شخص تحفظي؟ هو بالفعل كذلك، لا يعرف أحد عنه شيء، ولا يسأل أحد عن شيء، كيلا يُسئل، عادل بما فيه الكفاية، والآن قوقعته الجميلة التي بناها حول نفسه بدأت تشيكه، يريد أن يعرف بشدة، يريد أن يعرف عنها كل شيء، تمسك هاتفها كثيرًا، لربما يمكن أن يجد شيئًا على صفحات التواصل، يكتب اسمها الأول والأخير بشكل عشوائي، بتسارع نهم، بعيني ذئب، وتربص مفترس، لا يجد شيئًا، وكأنها غير موجودة على الكوكب، لكنه يجد الكثيرات العشرات ربما يحملن نفس الاسم، ولا يحملن قلبه بطرف ثوبهن مثلها!
هل يسألها بعد الغد عندما تأتي لتكمل عملها في جمع تلك البيانات السخيفة؟ هل عندما تسأله شيئا في الطب يسألها شيئًا عن (الفيسبوك) مثلا؟
هي لا تعرف أي شيء عن الطب، تجمع معه بعض المعلومات التي كُلفت بها، ذكرت مهمتها في أول يوم التقيا، لكنه نسي، بدت له في أول يوم مثل فتاة عادية ربما متحذلقة، تضع منظارها الطبي السخيف وتتكلم بدقة وحذر وتباعد، كأنها صاحبة الشركة التي أرسلتها، تقول له أنها المكلفة من رئيس مجلس الإدارة بالخطاب الموجه لمدير المؤسسة الطبية التي يعمل بها، يدخل رئيس الوحدة فجأة فيسمع طرف كلامها، رجل مسن في الخمسين، يرحب بها ويقول نعم تفضلي، من فضلك يا دكتور ساعدها في كل ما تسأل عنه، هي تقدم منفعة مشتركة بيننا وبين شركتها، ولقد طلبت من المدير أن نبدأ من وحدتنا اعتمادًا مني على نباهتك وأنك تستطيع إنجاز أكثر من شيء في نفس الوقت!!!
كان كلام رئيس الوحدة صادمًا، لكنه بعد أن جزّ على أسنانه استسلم، سوف يهملها وسوف تملّ من سؤاله، تبدو غبية متحذلقة، سوف يوقعها في الخطأ، أو يقتلها بتجاهله فيوكل رئيس الوحدة أحد غيره، لكن يا إلهي، ما الذي يحدث له في الأيام التالية حتى يدفع الأيام دفعًا لموعد لقياها؟

ينتظرها، تتأخر، تخبره أنها قد لا تستيطع القدوم في الموعد المحدد، يسهل لها كل العقبات ويبدأ في عملها هي كي لا تؤثر عليها دقائق التأخير، يتظاهر باللامبالاة، يتركها عشر دقائق قاتلة دون أن يطمئن عليها، يأتي متثاقلًا كإنسان جديد ليس الذي عاملها بلطف في رسائله .....
ينتظر الموعد التالي، الشوق يبدأ في التحرك، يتعجب، لماذا ينتظرها؟ ولماذا إذ تخبره بأن اليوم الذي حدداه مسبقًا لا يناسبها يخاطب رئيس الوحدة ومدير المستشفى وبعض العاملين كي يعطيها موعدًا آخر يناسبها؟ ومتى بدأ الكون يدور فجأة حولها؟ وكيف تحول لقاءها الثقيل إلى طرفة رقيقة؟
تسأله عن شيء في رسالة، يرد، مقتضب لكن سعيد، يجعل اقتضابه اقتناصًا لسؤالٍ آخر، يماطل، يستمتع كالمراهق الصغير بظهور اسمها على الشاشة! يجلس مع أصحابه، ينسحب قليلا بدعوى الحمام، يتسلل إلى أماكن عدة، لا يتجعل في الرد، ذكي، ولكنها ذكية ولطيفة، يثير خفة ظلها ويضحك، يلقى طرفة مقتضبة مثل وجهه ولكنه يعلم يقينًا أنها تضحك، يعود لمجلسه متغير القلب، ومحاولا أن يحافظ على ثبات وجهه الذي تصيبه عدوى النور.... يكااد هذا القلب يثب.
يعود لغرفته في المساء
يحملق في السقف الهاديء
يتخيل ضحكتها، يتخيل أنه يسير معها، يعرف أنها المطلوبة، لكنه يعرف أيضًا أنه غير مستعد، أو .... أنه ... بصدقٍ، خائف!
يتذكر تلك "البومة" كما يسميها ويسمي كل فتاة يكرهها، يتذكر كيف تعلق قلبه كأنه أمسك نجوم السماء، يتذكر كيف كاد يحارب العالم بالمعنى الصحيح للحرب، كيف كان على وشك تعريض سلامته الشخصية للخطر في مقابل الحصول على بسمتها ورضاها، طعنتها في صميم القلب جعلته يضرب عن الحب، عن النساء، عن فكرة الزواج لفترة طويلة، حتى فاجئته تلك الحمقاء، في لحظة لا يعرفها، هل كانت لحظة قدرية ليفتح قلبه أم عبثية؟ ببسمة طفولية وعيون لا يدري هي سوداء أم بنية أم عسلية!!

تمت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق