الأحد، 2 نوفمبر 2014

عيونها الخضراء الرملية ..... !

بعيون أهل الصحراء صفاء عجيب .... صفاء رائع ووضوح يسحرك ....... عيونهم كفيروزية المياة التي يغتسلون منها في سيناء ... لون الزتون يترك أثره كثيرا مشبعا بلون الصحراء في تداخل دخاني مموج رائع تتوسطه نقطة ارتكاز كَــحِـــيْـلَة :)

ينظر لها أترابها من أهالي البلاد أنها هامشية الوجود ! إما جاسوسة ، أو امرأة مقهورة ، لا تفهم مصطلحاتهم لأن أباها ينحني أمام الجدة مقبلا يدها ورأسها وربما كعب القدم ، ولأن أخاها ينحني على رأسها يقبلها ويحملها على الكتف ، ولأن مفهوم الرجولة أن لا يعلوا صوته أمام امرأة ، ولا يعلو كفه بوجه امرأة ، لا تفهم معنى المحكمة ، لأن جلسات العائلة يكون فيها قولا فصلا ، لا تخشى الرجال ، بل تحترمهم ، لأنها تعرف أن حقها مصون أكثر وأكثر لأنها امرأة !

عيونها الخضراء الرملية الرائعة ، بشرتها البيضاء المشربة بحمرة الرمان والتعريجات الخوخ ، تجعل من ملامحها شخصا أجنبياً عن تلك الدولة التي يغلب على ملامحها السواد !
ألوان الربيع بوجهها وشعرها الذهبي ، تجعل من ينظر لها سبح بحمد ربه مرتين ، لكنتها السيناوية الأصيلة تجعلها تبدو كشخص غريب بداخل عمق الوطن في العاصمة !
يفتخر جدها بالحرب ، بأنهم لقنوا الصهاينة درساً لن ينسوه ، وتتعجب لما تقصه أختها التي تدرس بالقاهرة أن الناس يظنون أهل سيناء جواسيس ! يثور الجد ، وربما في خضم ثورته طعن في شرفهم أيضا ، " يكفينا شرفا أنا كنا نقتل الخائن بيننا بأيدينا يا ابنتي قبل أن تفطن له السلطة ، كنا نطهر انفسنا بأنفسنا ، لا أحد يعرف من بالمدن " يذهب بعيداً حيث كانت الذكرى .

غير مدركة لتلك الأحاديث ، تأخذ ألعابها وتخرج لتلاقي إحداهن ، يلعبن طوال النهار بحقل الزيتون ، يتواعدن للقاء مع الآباء يوم العصير ... يقفن مسرورات بلقاء رائع آخر حيث العيد !

منذ أسابيع بدأت قذائف ترج البيت كل يوم وربما كل بضعة أيام ، تهديء الأم روع الصغار ، يقول الجد متى ننتهي ! لماذا لا يتحدث إلينا أحد ! الأب يعود مسرعا ملهوفا ... يطمأن لحال الجميع ، يصلون كي ينتهي هذا الكابوس !

شهر مر ، الأمر لا ينتهي ,,,, والصغار اعتادوا القصف .... وبات مفهوما جدا لديها حظر التجوال !

شهور .......... سنة وأكثر ........ تلك الحركات الغير اعتيادية تكون في القرى المجاورة .. تقترب كل يوم ... لكن بيت الجد حصين .

في صباح باكر ......... كان عليها أن تحمل حقيبة ظهر ....... بها كل اللعب ........ ليس هناك مكان للعب يا صغيرتي ضعي أواعيك أولا ...... أمامنا ساعات قليلة ........

هرج ومرج

الجميع في البيت يجرون ميجئة وذهابا ، بعيون قطة صغيرة تحاول جمع المشهد ، لا تفهم الأم تصرخ من هنا والأب يهرع من هناك ، كل أثاث البيت يتحول إلى سيارة نقل الأثاث ! " عبي أواعيكي عبيهن "

تجلس تبكي بين اللعب ! ............ تبكي بشدة .......... تقول لماذا يا أبي ؟ لماذا سنترك بيتنا ؟
لأن الجيش سيضربهم لأن الإرهاب كما قالوا يحتمي بأرضنا !
ولكن يا أبي لا احد في الحقل سوى أشجار الزيتون ... هل سنأخذ الأشجار معنا يا أبي ؟
الأشجار ؟ كلا يا ابنتي الجيش قام بتجريف الشجر بكيرة اليوم !
وشجرتي ؟ تلك التي أعلق بها شريطا برتقاليا لآخذ كل زيتونها ! لن اجمع زيتونها هادي السنة ؟
يغالب دمعاته : لن نجمع شيء ، عبي أواعيكي .. وخذي معك أهم شيء .. سنترك الباقي .. لا وقت لدينا ولا سيارات تحمل كل الأشياء .
هي : لكني أريد غرفتي ......... أريد الغرفة والشرفة ..... أريد كل لعباتي ...... أريد أشجارالزيتون ... الكلب ... هل سنأخذ الكلب ؟ لن نتركه أليس كذلك ؟
بنفاذ صبر وهو يجمع بعض الأغراض : لا وقت ... لاأريد أن يقصفوا البيت ونحن فيه .

تفشل في جمع كل الأشياء ... الحقيبة ضيقة ... رسماتها المعلقة على الجدران ، ألوانها المبعثرة تحت السرير وفي الأركان ، عقد الصدف الذي اشترته لها الصديقة من الإسكندرية الصيف الماضي ... ترى ما شكل الإسكندرية ؟ طوق الكلب ... هل سنأخذ الكلب ؟ الكلب صديق طفولتها ..تبكي ... تصرخ ... لاأريد الذهاب من هنا ...
مش ناقصنا غير هاي !
يتضجر الجد ......... ما يلبس أن يتضامن معها .......... يسعل كثيرا ...... يصمت .,... يغالب دمعاته ... هذا البيت بيناه في عز شبابه ، كانت زوجته حبلى بالطفل الأول ، قرر أن يوسع الدار لكل صبي دور ، سنوات ويمتليء بالأحفاد الذين يصرخون طوال اليوم ، عرس ابنه البكر ، الوحيد الذي بقي معه من أصل خمسة أبناء ، ثلاث إناث تزوجن ورحلن إلى بيوت أزواجهن ، وشاب قرر السفر لإكمال دراسته ، لا يستهويه الزيتون ولا بأس لدي أن يدرس ، ضجيج الزفاف ، الوليمة التي أقامها في صحن البيت ، بكاء أول حفيدة ، ثم حبوها ومشيها ، ثم قدماها تحملانها إلى المدرسة  ،ثم يصرّ أبوها أن تصبح هي ابنه البكر وتدخل الجامعة القريبة في المحافظة ، ثم تأتي كل يوم من الجامعة بأخبار عجيبة ، ثم تسافر إلى القاهرة وتعود بانطباعات لم تكن تصدق أنها حقيقة بين البشر مكذوبة عنهم!
ثم الحفيد الثاني ، ثم نوارة البيت الثالثة الصغير ذات العيون المختلطة ، ثم يعود لخطبة ابنته من رجل فلسطيني الأصل من رفح من الجانب الآخر ، منذ متى كانت رفح مدينتين ؟ ثم أخيه الذي يقبع على الجانب الآخر من الشريط لأن امرأته وحيدة أهلها هناك بعد استشهاد باقي أفراد العائلة !
ثم الاحتلال
ثم المخابرات التي تجثو على بيته منتصف الليل لتستجوبه إن كان مجندا لدى الجيش المصري
ثم حبسه في مكان أشبه بالقبر كي يعترف إن كان ينقل أخبارهم !

يومان في بيته يستريح
ثم الفجر يكون بسيارة رملية ، يقاد إلى التحقيق من جديد ... اللكنة قاهرية إذن مصريون هم ... يتسائلون إن كان يعمل لحساب الصهاينة ! تضييق وتضييق وتضييق ......... ثم يفرجون عنه ويعتذرون بشيء لا يشبه الاعتذار ولا يشبه العجرفة !
لذا لم يعارض سفر ابنه للخارج !
دموعه تفر ........... لا يستطيع أن يقف أمام جيش الدولة ....... ليس من الحكمة إراقة الدماء على أرض طاهر .... ليس من الحكمة ترك الأرض لمزاعم وفقط لم يتسنى لهم الفرصة حتى أن يناقشوها مع المسئولين ..... وليس من المعقول ترك دياره !

أبي ........ شهل !

يمسح دموعه ......... لا يصح أن يروه هكذا ...... بدت الدموع كأنها سيل وانجرف !

بعيونها الخضراء الرملية ....... تدور في الغرفة وتبكي .......... تجر حقيبة ملابسها ...... تجرها أمها بسرعة ....... نداءات الجيش تتعالى خارجا ....... يركبون السيارة والطفلة تصيح

تعانق كل أعمدة البيت وتصرخ ........ تعانق أشجار الزيتون بالبستان المجاور ....... ترى من بعيد الكلب يجري خلفهم يلهث ......  لا مكان للكلب ولا نملك رفاهية حمله معنا ........

بعيونها الرقراقة تترقرق الدموع وتنفجر ........ تنتحب ....... تنظر لأبيها على أمل أن يغير كلامه هذا الصباح ..... متى سنعود يا أبي ؟
لن نعود !
تنظر للوراء من جديد تجاه البيت وتبكي بحرقة
أزيز طائرة في الفضاء القريب ........  قذيفة مجنونة ....... تتهدم مقدمة البيت وساحته والبستان ...... قذيفة أخرى ... الجانب الآخر يصير ركاما ........ تصرخ البنت ........ بيتنا ......... أبي شوف بيتنا كيف صار ...... تصرخ ولا إجابة سوى دموع تقاوم الحبس وتقاوم الحرية !

وهناك تدرك الطفلة أولى معاني الوطن ! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق