السبت، 5 مارس 2016

12- ناري ...٢

يروح ويجي في الصالة، حول المائدة، كالثور الهائج، يدفعه غضبه إلى الممر تجاه الغرفة، لكنه يعود من المنتصف، يسكب أكواب الشوكولا على الطعام ، يقذفها فترتطم بباب المطبخ القريب، يفتح تلك اللفافة الأرجوانية التي أحضر لها فيها ثوباً قرمزياً جديداً....

كان يعرف أن القرمز يشعلها، تماماً تماماً كما يشعله، يجعلها تضيء بهجة وبهاءَ، كان يغار عليها من فستانها القرمزي من أعين كل البشر، حتى من عيون نفسه، كانت تبدو جميلةً حقاً وبهيةً حقاً، كانت مثل زهرات التوليب التي تحبها، مستديرة وناعمة، كانت تبدو كالدمية الفاتنة، كالحور العين، كالملائكة، ناعمة ورقيقة، وكان هو يشتعل أمام بهائها ورقتها، الأحمر القرمزي تشرب بشرتها اللبنية، وتتشربه، يضفي على وجنتيها ملمحاً رقيقاً من تبرّج متزن، دون نقطة تبرّج واحدة!

كانت تبدو في عينيه شهية، مثل اللبن مع حبات التوت الأزرق والأحمر حينما يختلطان، وضحكتها، كانت تبدو أوضح حين ترتدي الأحمر أو القرمز أو الأرجواني، ضحكتها كانت تحرق قلبه كالنار حينما يلامس وجهها ضوء النار!!!

جميلة تلك المجنونة، جميلة!

كلا، هي ليست فاتنة بتلك الدرجة، كانت عادية، كانت ملامحها رقيقة فقط، لكنها لم تكن فاتنة إلى الحد الذي يجعله يغار ويشتعل، كان هناك الكثير من النساء أجمل منها، وأرفع قداً منها، وأخفّ، لكنه، كان يعشقها، يقدسها، يعبدهاإن صح الأمر!

كان يعرف أن فتنتها في حبها الجمّ له، عيونها التي تلتمع فقط لعيونه، وجهها الذي يضيء لبسمة في عينيه!

لم يكن الفستان، أو العطر، أو التبرج، بل كانت تلك الروح التي تزدان بالبهاء والجمال والجلال في حضرته!

لكن الغبي، أضاع من قلبه كل شيء!

فستان المخمل القرمزي الجديد، ضيق عن العادة، ينحسر عند وسطها ليبرزها كحورية بحر، طويل ، وله فتحة من ركبتها حتى أخمص قدمها،
حذاء جديد، كعب مرتفع، أسوده لامع، يعكس أضواء الشمع، ولمعات الدمع في عيني صاحبه!

افترشه أمامه على الأرض، بكى من جديد حينما تخيل خطوتها بداخله، بكى أكثر حينما تذكر بسمتها الساخرة وكأن شيئاً لا يعنيها، وتقطع قلبه حينما توقف لحظة أمام عيونها،

كانت عيونها حمراء، دامعة، أو تدل على أثر دمع مر بها، لا يخطيء هو دمعها أبداً، نعم، بياض عينها كان مشوباً بحمرة أثيمة، لقد كانت تبكي!

فرح، دق قلبه، بكى، احتضن الفستان وبكى، تحامل على الكرسي القريب ووقف، مسح دموعه في أكمامه كالطفل اليتيم، واقترب من الغرفة متسللاً....

غرقت في النوم، اليوم كان متعباً، وقلبها لم يعد يحتمل التعب، بكائها تحت المرش أنهك قلبها المتعب أصلا من دون شيء!

لكن الدمع صار يسري رغماً عنها ورغماً عن النوم!

في ذاك الحلم القاسي، كانت تبكي بحضنه، كانت تضمه، أو كانت غارقة كما كانت تفعل بين ذراعيه، كانت تعاتبه وتبكي، وكان يمسح رأسها ويبكي أيضاً، كانت تغوص بداخله، كأنها تهرب منه، إلى عمق صدره حيث خلقتها الأولى!

أنفاسها تضطرب، ويظهر بعض أنين عليها، يصل الشيء إلى مسمعه فيربكه، ظنّ أنها متيقظة تبكي وحدها، خاف أن يراها تبكي، خاف أن يضعف كما العادة أمامها، خاف أن يشتعل وينطفيء ألف مرة في الثانية ويعود كالطفل الصغير إلى حضنها، لم ينس أنه رجل!
ولم ينس أن من عادات الرجال الصلابة والقوة.

لكن

قلبه الصغير يقتله، يتحرق إلى ضمة صدرها له، ويتحرق إلى هدهدتها كالطفلة الصغيرة كما اعتاد دوما!

"ماذا حدث يا ربي لقلبينا!!! "

تسلل إلى الغرفة، يغالب كل شيء، كل شيء، يغالب دمعه، وغضبه، وحزنه، واشتياقه، وسخطه، ورعونة الذكور، واستعظام الرجال على التسامح لامرأة سخرت من رجولتهم، وفزع الطفل لدموع أمه، وجزع الأب لبكاء طفلته، وافتتان العاشق بأنين زهرته، وهرولة قلبه نحو صدرها ليذوب في قلبها المتعب الصغير!

لم تشعر به، لم تنتبه، لم تدر وجهها، اقترب، ضوء خفيف يتسلل من قنديل الممر، غارقة في النوم، لا تحس بوجوده، أنفاسها تلفح وجهه الذي اقترب منها، ودموعها تغرق تلك الرموش المنكفئة على الوجع، وأنين صدرها وارتفاعه وانخفاضه ينحت في قلبه وجعا من وجع!

انهارت كل أقنتعه، يعرف أنها تعشقه، نزلت دموعه فوق خدها فمسحها بسرعة، شعرها الذي يذوب في أصابعه، أنينها الذي ارتفع شيئا صغيراً كأنما ملمسه شاركها الكابوس، مسح رأسها وخدها ووجهها، جلس على الفراش وانكفأ يبكي فوقها، يمسك يدها التي أرخت أصابعها فوق يده، دخل الحلم حيث هو هنا، وهو هناك!

ناما.... كطفلين تائهين وجدا سبيل البيت فناما، شعرت برائحته تملأ أنفها فسكنت، ونامت، وهدأ قلبها عن البكاء.

وأحس بأصابعها تسكن ليديه فضمها كلها إليه ونام، كالطفل الغريق، الضليل، الذي عاد أخيراً إلى حضن أمه، وحصنها المنيع.

كل النيران التي دخل بها، نيران الغضب والنيران الصديقة، كل الاشتعال، كل الغضب والشوق والألم والأمل، كل الجوع وكل النفور وكل العطش وكل الفتور، كلها كلها انطفأت في حضنها .... وناما !


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق