الأحد، 26 أبريل 2015

يا جــدي !

هل رأيت ؟

طفلتك الصغيرة التي كانت تحب المروج وتسرح بين أغصان الجوافة والكروم ، تلتمس برعماً وليداً أو ثمرة يانعة ... صارت عجوزا بما يكفي ... !

سوداء بما يكفي ... يكتنفها الحزن عن الحياة ، وتستأثر بها الكآبة ، ويعتريها اليأس جولات وجولات .. حتى صارت لا تدري أيهما أقرب لنفسها الطيران في رحابة السماء ؟ أم السكون لباطن الأرض !

يا جدي ......... صارت آلام الحزن تداهمني ... وقد كنت ظننت أني قد فلت بأحزاني وآلامي بعد أن أشرق الربيع في أيام الله ... صرت أقول لنفسي أعزيها لقد مر العام وانقضى لعلنا نفتح صفحات جديدة !

صباح أحد الأيام .. كنت أتحدى قلبي ورئتي ... فتحت صدري للنسيم البارد العابر في الطريق ... تنشقته عن آخره ... حتى أمعاء بطني ... أزحت وشاحي الذي أتلثم به عن برودة الشتاء .... وابتسم ثغري للهواء ... وتنشقته ... حتى شعرت برودته في أمعائي ربما !

قلت لنفسي ؟ ماذا قد يحدث ؟ أموت من النسيم ؟ لا أحد يموت من الهواء العليل ... أسارع وجع قولوني الذي كان يرتجف لكل عارض ... معدتي التي أتعبها تكرار الأدوية ... أباغتها بحبة الصباح قبل أن تباغتني بتمغصها وتذمرها ...
أحاول التقافز كفراشات الصباح .. احاول العيش ... أحاول اقتناص لحظة فرح طفولية ... لا ينغص قلبي فيها ألم ذكرى ولا هياج ذاكرة !

لكني صرت كهلا يا جدي ... صار قلبي شيخاً كبيراً ... يعرف الحب ولا يقربه ..... ينصح القاصي والداني ... يقدم إليهم أزهاره على موائد السمر والطعام ... ويجلس في الليل وحيداً ... يأنس بقصص الغرباء ... ولا يؤانسه مثل صفحات الكتب ..


أصارع يا جدي كل شيء ... أصارع وحشية نفسي في محاولات الترويض المستميتة أن تصبح مثل الوحوش التي تغدو وتروح طوال اليوم حولي ... أصارع جموحها وتمردها وفي ذات الوقت أصارع كسلها ونمطية تصيبها عندما يصاب القلب بذاك الفتور !

أصارع عادات وتقاليد ومفاهيم ... داخل نفسي .. وأصارع أن تتخلل في نفسي وتسكن ... أخشى الهزيمة يا جدي وما أمرّ ما أخشى من الهزيمة !
أخشى أن يهزمني الدهر .. يهزمني التوحش ... يهزمني الفتور ... أن ألقي بسلة أحلامي في أحضان اليأس ... وألقي بصبوة شبابي في أحضان رجل لا أعرفه ولا يعرفني ... ولا تمتزج أروحنا لأنها في أصلها متنافرة !!!

ستقول .. صلي يا ابنتي وتكولي على الإله الحميد ؟ .... أصلي يا جدي ... أخاطب الإله ألا يتخلى عني ذات مساء فيقدر لي في الصباح التالي قدرا يؤلم قلبي أكثر !

أصارع يا جدي ... وكثيراً ما أكون وحدي .... لا بأس بالوحدة ... ولكن يصيبني التعب أحيانا ... يصيبني الفتور وشعور الخيبة والبأس ... أتعب ... أليس من حقي التعب ؟

كل شيءٍ يا عزيزي مقلوب رأساً على عقب ... اليأس ينتهشني أحيانا ... كان يتسلل ليلاً ... الآن صار يتقاذفني في وضح النهار ... يغتصب الفرحة في عمقي .. وتطال يده الأثيمة جوهر القلب الحزين فلا يصده ولا يرد !

تلك النفوس الأبية التي غرستها في نفوسنا صغاراً ... بين الإباء والكرامة ... بين الحاجة ... بين الجنون والصخب ... بين الزيف يا جدي نصطرع ... نُصرع أحيانا ونَصْرَع أخرى ... فتعود نفوسنا مهشمة ... مهما انتصرت لحظياً .. تأبى أن تموت !

وإنني يا جدي أخشى من لحظة انكساري ... تلك النفس المهشمة التي أسير بها في محاولة الاتزان ... تلك النفس المليئة بالخدوش والجروح .. تتحامل وتنتصب ... تظهر كخيال مآتة واقف في وسط الزرع كأنما يرهب العصفور ... لكنه من حطب يا جدي ! من حطب !

يؤلمني صدري كثيراً .... أضلاعه وعظامه صارت تضيق به ... تخبرني الطبيبة لا تحزني ... تخبرني توقفي عن المبالاة لكل شيء .... توقفي عن ... لربما تقصد عن الشعور ؟ .... رأسي يستعر بالأفكار ... تسبب لي صداعا وقتياً ... يزول بانشغالي بشيء ما ... فإذا ما خلوت إليَّ ... وراجعت من أمر نفسي شيئا ثقيلاً ... عاد وخز صدري يا جدي !

ألم أخبرك ؟ فقد تعلمت أن أبتلع الحزن ... أبتلع البأس واليأس والنصب .. أبتلع أفكاري وهمهمات قلبي ... أبتلع غضبي وثورتي وسورته ... وصرت لا أبكي ... لا أجد وقتاً لأبكي ... وأحياناً لا أجد دمعي .. نعم ... تلك الصغيرة التي كانت تحبس أدمعها أمامك ثم تفيض بها وحيدة بعيداً عن ناظريك ... صارت تلتمس الراحة في أدمعها فلا تجد !

هل كبرت إلى هذه الدرجة يا جدي ؟ لمَ لمْ تخبرني يا جدي ؟ لمه ؟

وتركتني هنا .... أصارع في الحياة كل شيء ... الطريق موحش يا جدي ... مقفر ... ووحيد .... أشباحه أكثر من معالمه ... وخيالاته أعلى من حقائقه ... وتلك الحقائق تعثر بأقدامنا يا جدي ...

عطرك .... حضنك ... إباءك ... كرامتك ... سندك .. أفتقدك !

هل كنت لتوافقني آرائي السياسية ؟ أم كنت لتأبى وتكون مثلهم ؟ لكن نفسك أبية حرة .. لعلك كنت تنفر من تلك الرذائل حولنا !
لعلك !

يا جدي ... يتلاعبون بي مثل الكرة ... الرياح شديدة وقوية ... ولا سارية في الأفق إلا من حديثي لنفسي أن تثبتي وتقوي ...
هل كنت تثبتني ؟ أم كنت لتتركني حيث الطلاسم تقتل كل شيء ؟ لا أعرف ! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق