الجمعة، 19 يوليو 2013

الحــنــيــن ........... جدي ... والحنان أيضا

عندما اقترحت إحدى الزميلات في التدوين فكرة الحنين ! 

الماضي ......... لا شيء يبرق في الماضي السحيق مثل عينا جدي ! 

ما طفولتي إن لم يكن هو يزينها ويريحها ويدللها ! ........... ما آمان الطفلة الصغيرة سوى بحضنه الدافيء ...... بكلمته القوية .... بقامته العالية والتي تطل منها من بعيد عيون رجل حنون محب !

صوت قوي ............ وعبارات صارمة ، حزم ومحافظة لم تمنع أبدا المرح والدلال وأوقات الضحك اللذيذة !

لم تمنع أن يدخل يده في جيبه العميق جدا ويخرج نقودا معدنيه يفرقها علينا لنشتري الحلوى أو ما يلهو الأطفال من ( الشيبس والبوزو والأيس كريم .... ) 

لم تمنع أن يقول لأحدنا أنه يريد شيئا محددا وأن يحتفظ بباقي النقود ليشتري حلوا بعدد الصغار في البيت فإذا تبقى شيئا أخرى اشترى نوعا آخر ! اجعلهم يفرحون .

لم تمنع أن ألتحف ذراعه وأتوسد صدره تحت عبائته الصوفيه أمام التلفاز في ليالي الشتاء الباردة .........

مازالت رائحة جدي تهيج في النفس لتذكرها .................. رائحة تحيي القلب معها صبيا من جديد ، تعطيه الحنان والقوة والرجولة .

الحنين ! ما الحنين لشيء فات سوى لجدي ............ كل الذكرى الرائعة يحملها جدي .............. حتى ما أغضبني يوما منه ليس بقدر ما أفرحني .

أنظر اليوم بعيون الشابة إلى الدنيا .......... أتعبت الرجال بعدك يا حبيب عمري !

من ذا يكن رجلا مثلك ! رائعا مثلك ، حنونا مثلك ؟ من ذا أشتكي إليه فيقول اهدأي ولا تبكي يا صغيرتي عندما تأتي سأضرب من يغضبك ، كوني هادئة ومطيعة كوني مهذبة وفقط وأنا لن أسمح لأحد أن يضايقك .

من ذاك يتحسس أكلي ونومي وفرحي وحزني ؟ من ذا يتكلم معي في أشكال البشر ؟ 

لا تنس يا سارة الصينيون لونهم يميل للصفرة بالتركيز ستعرفين الفرق بين الصيني والياباني والكوري 

من ذاك يداعبني إن مررت أمام التلفاز صدفة لاهية في أمري غير منتبهه فيقول يا سارا توجا ( اسم بطانية كان لها إعلان غنائي وأنا صغيرة كان إعلانا مضحكا ومبهجا كنت لا أحبه بسبب سارة توجا إلا أن كان يداعبني به جدي وفقط تحول الأمر ) فأبتسم ! وأره في عيونه معنى التبسم .......... عيونه عالم ضاحك ............ عالم مشرق .

من ذا إذا اشتد مرضه ، وأخيرا قام من السرير ليأكل معنا على طبلية واحدة ( الطبلية طاولة قصيرة معروف بالريف المصري :) لازالت حتى اليوم هي المفضلة عند الأكل حتى مع وجود السفرة ) 

تقاوم عيونه المرض وتظهر المياة البيضاء فيها فتغير صفاء عيونه العسلية .... وتحيلها إلى قليل من الزرقة بسبب المرض .. فأغازل عينيه مداعبة يا أبو العيون الزرقاء يا قمر ..... فيضحك وترجع رأسه إلى الوراء ويقول اختشي ... عيب تقولي لجدك كده ... بتعاكسيني !!! أيون بعاكسك بعنيك الحلوة دي يا حلو انت يا جميل ..... اختشي يا بنت ... ويضحك جدا ... ويقول بصوت أقل مرحا عيوني عسلية الزرقة من المرض .... أقول له ... خايف تقول زرقا وحليوة يا عم انت تتحسد ؟ قمر بردو :) يضحك ثانية ! ما قولنا خلاص بقى .... ولا تتجوزيني بقى مادمتي بتعاكسيني كده ... أنا .... هو احنا نطول يا حليوة انت يا عسل ... طيب قومي اعملي الشاي بقى يا بكاشة ......... 

جدي ! 

في رمضان عندما كان يأتي في الشتاء ....... كان لدى جدي أشجار خشبيه شائخة فاقتلعها ليزرع مكانها في حديقة البيت ، كان يكسر منها كل يوم قطعا أصغر يشعل النيران فيها لنجتمع ونستدفيء ، كان يقوم بالمهمة قبل المغرب ، ويدخل الموقد إلى وسط الصالة ، نتناول الفطور ، ثم يضع براد الشاي فوق الخشب المشتعل ، ثم يأتي بعد ذلك تباعا دور الملذات الأخرى فوق النار أو بدونه .

وفي صبيحة العيد ............. كان حبيبي يلبس جلبابا رماديا أحيانا كثيرة وشالا أبيضا كالعمامة ، نضارته البنيه ، شاربه المهذب ، عصاه العتيقة ، عطره الفواح ، يعطيه مظهرا جذابا كعمدة القرية في الأفلام الملونة ، رجل ثقيل متأني الخطوة رافع الرأس .


يصلي العيد ويأتي بعدها ليجلس على إحدى المقاعد الخشبية خارج البيت ، في الهواء العليل ........... يضع يده في جيب سترته الداخليه يخرج النقود الجديدة الجميلة ، التي تفوح من عطر يديه ، يسأل أمي أو إحدى خالاتي ....... العيال صحيوا ؟ 

وتبدأ الحفلة ............. عيديه صغيرة لنصرفها وأخرى كبيرة تذهب للأم تدخرهم لنا ! 

صباح الخير يا جدي ......... كل سنة وانتي طيبة ......... وانت طيب !

في تلك الجمل ................... كان العيد !!!

ما العيد إلا رائحة عطره في الصباح أستفيق عليها ......... صوت نحنحته وهو يخرج من البيت ........ ثم قبلته بعد الصلاة !

كان لا يضع خده على خدي فقط ويرمى قبلته في الهواء ............ كان يحرص أن تطبع القبلة على خدودنا أو رؤوسنا 

كان لا يمثل الحب والحنان ........... كان لا يؤدي دوره كجد ........... بل كان يحفر في القلوب ليغادرها سريعا إلى علام الغيوب !

هو رحل ..................... والعيد والله رحل معه ! 



رحل في ثنايا جلبابه الناعم ، وأطراف عبائته الدافئه .......... رحل وترك الروح خلفه تبحث في بقايا البشر عن شبهة صفة لرجل !

رحل ................. وتركني يتيمة من الصلات والقربات والعواطف .

رحل ................ وأخذ معه أمان الأب واهتمام العاشق وراحة الصديق ومرح الأخ ودلال الجد والحنان كله ! 

رحل ................ وأخذ معه صوت الفجر وصلاة الجماعة في الدجى ! بقراءة مرتلة رصينه .

رحل .............. وأخذ معه هيبة الرجال ووقارهم وقوتهم وشموخهم وعقلهم وتدبيرهم للأمور وحنانهم !

رحل .............. وأخذ معه لحظات الشوق لآذان المغرب ، ودفء المشاعل في الشتاء ، وصوت المسحراتي في الظلام !

رحل ............. وأخذ معه فرحة العيد ومرح العيد وضحك العيد وذبيحة العيد التي كان ينتقي أطيب أجزائها ويطهوه بنفسه في البكور ليضع في أفواهنا الصغيرة الجائعة لقمة لذيذة لم أذق مثلها حتى اليوم من يد أحد !

رحل .............. وأخذ معه طفولتي .................. وأخذ معه قصة فارسي ......... وأخذ معه أمان جانبي ...... وقوتي ....... وحبي ......... وكل اشتياقي ........... وكل الحنان والدفء الذي يجعلني أحيا لا أعيش !

وتسألون عن الحنين إلى الماضي ! إنه الماضي .......... اسمه الحنين إلى جدي ............ هو كل ما حدث لي 

ومن بعده توقف الزمن ! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق