الثلاثاء، 18 أغسطس 2015

٩- صــفـراء !!

الأنفاس الاصطناعية تعطينا شعوراً مؤقتاً بالحياة ، تنقذنا من الموت لدقائق أخرى تمهل فيها القلب كي يستفيق إلى عمله ويعود بوعيه إلى الحياة .

مؤثرات النشوى كذلك ، والانشغال عن الألم نفس اصطناعي كبير ، يمنحنا إياه العقل ، ظناً منه أن القلب ماكينة ، تخدعها الأنفاس الزائفة ، يستجيب القلب للزيف أولا ، ينشط ، يعمل بنشاط ، يفرح ، يرسل إلى العقل موجات إيجابية بالحياة ، ينتشي العقل ، ويرسل الأدرينالين لباقي الجسم ، فيشاركه النشوة ....... القصيرة جدا !

الرتابة والألم ، لا شيء فيهما يقتل الآخر ولا شيء فيهما يصادق الآخر للنهاية ! صديقان مشاكسان جداً .
ترتيب الأشياء باعتيادية وتغيير نظام المطبخ كل فترة بدأ يصبح تراتبياً ، يعطيها نفساً اصطناعياً جديداً ، تتصنع أنه نفس حقيقي ، قبلة حياة أخرى ، فتنشر فرحة زائفة ، وتستخدم الأدرينالين في عروقها عن آخره ، وتسقط مغشياً عليها من التعب .... وتصنع النشوة !

صارت بارعة حقاً في صنع أنواع مختلفة من المعجنات الحلوة والمالحة ، صارت تتقن المربى بشكل يجعلها بفخر تنافس أعتى شركات صنعها المحلية والأجنبية ، صارت تعرف تقنيات في الطبخ لم تكن تعرفها ، استخدام الأشياء القديمة واستغلال المساحة وخدع البصر بالألوان .

صار لها عمل خاص صغير ، تبيع الحلوى عبر الانترنت ، تبيع بعض أشياء تصنعها في الوحدة ، تبيع غزل الصوف الذي لا يكتمل على حاله من عدم الاكتمال عندما تمل منه ، تشاركها نساء أخريات ، مللن الرتابة أو أدمنَّها !

صاروا يسمونها بائعة الفرح ! كل أشياءها المعروضة للبيع فرحة وتدعو للفرح ، معجنات بأشكال الزهور والفراشات ، تمزجها بأعشاب أو حلوى أو خضار أو فاكهة ملونة ، تضفي شيئاً بين الواقع والخيال عليها ، شيء يجعل ما تبيعه مميزاً رغم بساطته !

كانت تبيع الحب ، تبيع الحب بشكل آخر ، تمنح من حولها تلك الأنفاس الاصطناعية الخانقة بشيء من جدية وشيء من حياة ، كانت تضيف لهذا الأكسجين القاسي بعض العطر ، بعض النبض الذي تفقده .

بذات الوقت ، بدأت تتألم ، عجيب ! امرأة  بهذا الانطلاق تتألم ؟

آلام متفرقة لا تدري مصدرها ، كانت تعوزها للعمل الدؤوب ، للنوم القلق ، للتدقيق في التفاصيل ، لانشغالها بمشروع لا تعرف عن إدارته شيء إن كبر منها ، الأمر مجرد صدفة ، وهي لا تجيد التجارة ، هي فقط تريد صنع بعض الدوائر الجديدة كي تخرج من دائرة قيده .

يزعجها الأمر ، تتجاهل ، تصاب بصداع نصفي يدوم لأكثر من يومين ، تمارس بعض التمارين ، لا ينتهي ، الدوار يلاحقها ، تضطر للبحث عن مشفى في المدينة الجديدة ، ثم تقف فجأة وتسأل .... هل تخبره ؟ هل تذهب بمفردها ؟ هل تعود للعاصمة حيث بيت الأهل ؟ ثم كيف تعود ؟

يطل الصغير من الشرفة وهي غارقة في فنجان القهوة .... يا زهرة تشرين الندية ، تلوح له ، يفتح الباب ويدخل ، تسأله عن المشفى القريب ، يعرفه جيداً هو بجوار مدرسته ، يصحبها ، فتكفيها صحبة الصبي !

" هل تعانين ضغوطا مع أولادك ؟ "
= كلا ... ( تبتسم بشيء مرير ) .. ليس لدي أولاد بعد ( لا أعرف إن كنت سأحصل على تلك الفرصة حتى ) ... آه ... هذا صديقي وابن الجيران .

" هل تدرسين ؟ "
= تهز رأسها  بالرفض وبسمة حيية حزينة تعلو شفتيها ...

" هل لديك مشكلات أو ضغوطا حياتية ؟ "
= تنظر في عين الطبيب مباشرة كأنه فاجأها ، تخفض رأسها ، تبتسم تلك البسمة الصفراء القاتلة ، حرب الإجابات في رأسها توجعها ، بأي شيء تجيب ؟ بأي لون ؟ بصنع الحلوى الذي صارت فيه مايسترو ؟ أم بزوجها الضبابي بعد ذاكرة عشق لا تخون ؟ بأي امرأة تجيبه ؟ البرتقالية اللامعة ؟ الفيروزية الحنون ؟ أم الرمادية الخافتة الغامضة ؟

" لعلك بحاجة للراحة والهدوء قليلا ! "
في محاولة للدفاع ترفع رأسها ، تفتح فمها ، تهم بالكلام لكنها تتلعثم ، هي تريد أن تخبره ..... الحقيقة ؟ كلا ... لكن ما تود لو يكون الحقيقة ... أو ما يجب أن يعلمه شخص غريب ....

= أنا بخير ...

" نعم أنت بخير ، أعلم ، لا شيء عضوي ، إن ظهرت أعراض جديدة أخبريني ، أرجوكي لا تدخني تلك الأيام ولا تشربي أي محتوٍ للكافيين ، لا للمنبهات تماما ، أكثري من شرب الماء والاسترخاء ، ...... تمارين التنفس ستفيدك "
= حسناً

تهم بالانصراف ، يناولها الطبيب بطاقتين ، رقم هاتفه إن احتاجت للمساعدة ، وبطاقة أخرى بها هاتف طبيبة نفسية ، ابتسم بشيء من أدب وخجل من حيائها الجـمّ والمشدوه أمامه " في حال احتجت المشورة "

تبتسم بين تردد وتلعثم !! حتى الابتسام يخرج متعثرا من شفتيها !

تَعِـبَـتْ ، من حقها التعب ، هذه المرة قررت الجلوس ، قررت أن تتعب بحق ، أن توقف الأدرينالين وتستجيب لصراخ القلب الحقيقي بعد نشواته الزائفة ، أن تجلس ، أن تلهث وتلهج وتصرخ وتبكي ، أن تكسر بعض الأطباق ، وأن تضرب عن الحياة لحين !

تَعِـبَـتْ ، وصدمها التعب بأنها كانت تهرب ، من الحرن بصنع الفرح ، ومن القسوة ببيع الحب ومشاركته ، ومن الألم بالحنو وتطيب الجروح ، شعرت كأنها تفيق من مخدر فائق القوة ، على عالم ليس عالمها وليس لها ، شيء يفصلها عنه ويفصله عنها ، بدأت تسأل منذ أسابيع طويلة ، أين هو ؟

يدها ترتعش ، تحمل الأشياء بوهن ، ترتب الأشياء ثم تضيق ذرعا بها ، فتتركها وتجلس تلتقط أنفاسها ، كلما شعرت بالتعب كانت تشرب كوبا من المياة ، قهوة بلا كافيين مثل لبن بلا دسم ! لا طعم ولا مزاج ،  تهم بتدخين سيجارة ، عادة سيئة تراودها كلما هدَّها التعب ، تتراجع ، تبكي ، لأول مرة تبكي منذ شهور ، لكنها تبكي بشيء مرير .

في الصباح الباكر ، تحاول التعامل مع اليوم كأن الألم لم يصدمها أمس بمحاولات الهروب الفاشلة ، من سؤال ظل يقرص جنبها طوال الليل أين هو حتى أدار مفتاحه في الباب ودخل يبحث عنها كالمجنون فتظاهرت بالنوم ، تنكر أنها تظاهرت بالنوم وأنها سمعت اسمها في لهفة طال شوقها لها .

تشرع الشرفة أمامها وتجلس تقرأ ، تحاول شرب بعض اللبن فيباغتها ألم جديد ، القولون ؟ أم نسمات برد لفحت عظام صدرها ؟ تحاول التنفس سريعاً لتتغلب على الألم ، تتذكر أن التمرين بطيء ، تحاول تنظيم أنفاسها ، تحاول الهدوء ، تحاول لكن الألم لا يزول بسرعة ، والتنفس ليس عصا السحر !

تنام ، وتدير الموسيقى ، وتبكي ، وتتألم ، وتعاند كل شيء كي يتوقف الألم ، تتعب ، تبكي أكثر وأكثر وأكثر ، تدرك وقتها فقط كم هي وحيدة وتعيسة وبائسة ، تبكي أكثر ، تدرك كيف أنها تخلصت من قيده فصارت خائفة في قيود نفسها أكثر ، تبكي أكثر ، تذكر كيف ظنت أن العالم في عينيه وتدرك أنه كان انعكاس عيونها ، تبكي أكثر ، تذكر كيف كانت اللهفة وكيف كان الشوق وكيف حل الهجر والجفاء والبعد بديلاً لكل ذلك ، تدرك وقتها فقط ليس كل شيء قابل للإصلاح ، تبكي أكثر ، تبكي بحرقة وبشدة ، تبكي حتى تجلس تلاحق أنفاسها من شدة النحيب ، تبكي الآن والآن فقط لأنها أدركت أنها كبرت بما يكفي لتفهم تلك الحقيقة ، أنها الآن نضجت بما يكفي لتطأطيء رأسها لعواصف الحياة أو تموت تمزقاً فيها ، تبكي أكثر لأنه جعلها تكبر هكذا وتنضج فجأة هكذا وقد كانت بين يديه طفلة ، تبكي أكثر لأنه لا شيء يعود مثلما كان ، ولا شيء ينصلح بلا ندوب قبيحة تجرح يدك كلما لامستها وتجرح قلبك كلما ارتأتها !

تفقد شهيتها لكل شيء ، للعصافير ، للطبخ ، للعجين ، للزرع ، للقهوة ، للكتب ، لكل شيء ، للحياة !

تنزوي طوال اليوم في الشرفة ، تنظر إلى اللاشيء ، وتنتظر اللاشيء ، قد تعي جلستها ، فتبكي كمداً ، وقد يغلبها الجو الباردة بنعومته فتنعس بين يديه كطفلة .

يعود مساءً ، ذراعيها متحجران من البرد ، أطرافها بيضاء جداً كأنه لا دم بهما ، وهي غارقة في نوم أشبه بغيبوبة صغرى ، يحملها فلا تشعر به ، يضعها في فراش دافيء ويدثرها بغطاء ناعم ، يزيح عن جبينها الأصفر فتنته ، شعرها الكستنائي الساحر ، كل شيء في شحوب روحها يخبو ، يؤلمه خفوتها وصفرتها ، لكنه يغض الطرف ويخرج .

كالزهر نذبل ، وإن أصابتنا صفرة الذبول فهناك أمل ، أمل ضئيل  لكنه يظل أملاً ، بأن يداعبنا الندى ، أو يمنحنا الغيث قبلة حياة حقيقة ، نبض حقيقي ، حب ، ولع ، شيء يلم بتلات أرواحنا المتعبة ، يحضنها بصدق ، فنستدفيء ، وتهب فينا الحياة مرة أخرى ، نخفت فقط ، لكن نزهر من جديد ، ونتلون بحمرة الحياة من جديد ، وإن زارنا الأصفر يوما فليكن ، لون الفرح أصفر ، ولو السرور أصفر ، كما لون المرض تماماً ، لكن شتان بين الظهورين !
أحيانا ، لا يكون طبيبنا سوى من نحب ، لا يكون غطائنا الوثير مثل ذراعين محبان ، نحيا بكلمة ، كما يمكن جداً أن نموت بالصمت ! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق