السبت، 15 أغسطس 2015

7- رمـاديــة !!

 " صباح أمسٍ كان هنا ، انخلع قلبي قلقاً لأنه تأخر ، انتظرته مثل اللصوص حتى الفجر أخشى أن يعرف أني صاحية ، تعبت وغلبني النعاس والهم ، دخلت سريري ، لا ينام جفني خوفاً أيضاً ، كيف له أن يتأخر وهو يعلم أني لا أنام سوى بحضرته ؟ أشعر صوت سيارته من بعيد فأنام ، الليلة كنت مشتاقة إليه جدا ، لا جديد أشتاقه دوماً ، دخلت سريري وانتظرت ، أدرت فيلما يلهيني ، القلق يأكلني ، والنعاس أيضا ، لا صوت يأتيني من بعيد ، لا رسالة منه ، لا يجيب هاتفه ، قلبي يأكلني حقا ! لماذا يأكلني في كل مرة مهما جفا ؟ لا أعرف ، أدور في الغرفة ، أطمأن للمرة الخامسة أن الأبواب مغلقة ، أتفقد الحديقة من الشرفة المشرعة أمامها ، السماء جميلة الليلة لكن يبدو الضباب من بعيد سيكسوا الفجر ، تفقدت المطبخ ، قررت أن أحضر له شطيرة يأكلها عندما يعود ، بعض العصير ، وتفاح أخضر ، أعود لغرفتي ولا شيء يتغير سوى دقات الساعة التي تصبح أكثر إزعاجا ! أندس في سريري ، يغالبني النعاس وأغلبه ، أسمع سيارته من بعيد تكسر شيئا على الأرض ، أهرع للنافذة ، يظهر نور السيارة من بعيد ، أترك نفسي للنوم هادئة !
لأول مرة يدخل غرفتي أول وصوله ! عطره يعبث في الحجرة ، يقترب ، أميز عرقه ، أبتسم وأتقلب كي لا يكشفني فيهرب ، يا لحظي داعب شعري ، ثم خرج ، نمت هانئة ، أتنفس عبير عطره طوال الليل . أقصد ساعات الفجر حتى الصباح !

لكنه في المساء ....كان غريباً .... كان داكناً ، كان خانقاً ، كان مثل دخان السماء ورطوبة الصيف ! "

لا أحد يعرف ما يدور بخلد امرأة عاشقة إن أصابها اليأس والتعب ، لا أحد يعرف كيف يصيبها الشيخ والألم والإرهاق ، فتذبل روحها ، كوردات الخريف البائسة في مطالع الشتاء الغائم !!

تصارع شموس القلب التي تحنو على ذاك الصقيع الذي يجتنف روحه ، تعشق سواكنه الهادئة الباردة ، تعشق أن تطل بها كالشمس في عتمة الشتاء ، لكنها صارت تنطفيء يوما بعد يوم ، صار البرد يتسرب لروحها أيضاً إذ لا تجد مدفأهُ ليلا تسطل إليه ! كيف لهذا الرجل أن يبحث في ركنات الغيم عن المطر والنهر متدفق تحت قدميه !

عجيب أمر الرجال !

تَـعِـبَـتْ ، أما يحق لها أن تتعب ؟ صارت تصنع لها ناموساً آخر تشغل به نفسها عن نظم أكوانه المتوازية والمتضاربة .
لا تعرف هل تحنو للمسته العفوية التي تكشف بعض ود لها ؟ أم تستسلم لأنياب الوحشة والقسوة الزرق ؟ يطلون عليها من بين أفواه الغياب ، ينهشون كل ليل هذا الغزل الصوفي الملون الذي باتت تحيكه من أجل طفل ! طفل قد يجيء لأب مجنون وقد لا يجيء ، صارت ترسم لذاك المحاك خططاً بديلة فتنقض الغزل بعد شبه تمام ، ثم تضيف بعض الأحمر قد يناسبه إذا حولت الغزل من سترة بأزرار صفراء إلى كوفية ، ثم إن أوجعها الفكر وضعت بكرات الصوف على الطاولة القصيرة وصرخت فيه بهنّ ، كأنهن مرسال الليل الذي لا يكشف السرّ .

في الصباح التالي قررت صنع بعض الحلوى ، صار ناموساً آخر لعالمها الخاص ، صنع الحلوى ، هي لا تأكل الحلوى ، ولا تحب السكر ، لكن رائحة الحلوى تجعلها من جديد برتقالية ، طفلة بضفائر بنية تطاير مثل نسيم الصبح ، تبتاع من ذاك المحل البعيد أنواع فواكه عدة ، تضع القدر فوق النار مع السكر وتطهو الفواكه ، وتنتشي برائحة المُـربى .

مطبخها الصغير مليء بألوان عدة ، قوس قزح الذي يتراتب في ألوان الأطباق والكؤوس ، أكواب ملونة ، وأخرى شفافة ، لا يهدأ بالها حتى يكسر لمعانها ضوء الشمس الناعس المتسلل من نافذة تماما كما تمنت أن تطل على أحواض زرع فيها ما شاء الله لها أن تزرع من أعشاب تساعدها في فن الطهو ، وزهرات تجمل فن المطبخ ، ألوان ألوان تسرق عينك ، لكنها برغم ألوانها الحاضرة الزاهية كانت ...... رمادية !!!

أسابيع تمر وأيام تجيء ، لا تشعر بالوقت داخل مطبخها ، عودت نفسها التعب طوال النهار في تنظيم الصحون بتراتب مخيف ، وتلميع كل الكؤوس يومياً ، وعلى حسب الفواكه المتاحة تكن الحلوى ، تضعها في برطمانات شفافة ، بنفس القدر ، بنفس عدد الملاعق ، بنفس الحب ونفس الأنفاس المنتظمة ، تغلقهم بإحكام كامل ، وتضعهم مختلفين ، يظهر تضاربهم جمال ألوانهم ، أغطية جميلة ، تفتح نفس الرائي للأكل ، ورائحة فواحة ، تصيدك من مترات عدة ، تذكرها الحلوى بطفولتها ، تذكرها بأمها التي كانت تصنع لها الشطائر كل صباح حتى لا يقرصها جوع الظهيرة بين الأقران ، ترفع شعرها خلف رأسها تماماً كأمها ، وتبدأ عزفها الخاص ! ( ينهكها التعب طوال اليوم ، فتغيب في موجته نائمة لا تشعر بأطراف أصابعها من كثرة العمل ، فلا تنتظر مجيئه ، ولا تخاف بدونه ، ولا تشعر بأي وقت قد أطل هلاله ! )

مظهر المطبخ مكتمل أمامها ، شكل المربى يشهي ! تجمعهم في سلة دراجتها وتجري ، أين تذهب بهم ولمن تعطيهم ؟ هي نفسها لا تعرف ، تتوقف فجأة فتناول أحد الجيران ، أو تلمح نظرة اشتهاء في عين طفل فتناديه ويصير تعارف قصير بينهما فتسأله عن مفضلته ؟ هل يختار الشكل أم يود معرفة الطعم ؟ كانت لا تأبه بالإجابة ولا تفسرها كانت تمد يدها للسلة وتناوله ما يشتهي ، يبتسمان وتمضي !

يتحدثون ، الناس لا تكف عن الحديث مهما حدث ومهما صار ، هل هي مجنونة ؟ هل تتخلص من الحلوى لأنها مسمومة ؟ لكنها تبدو امرأة رقيقة ! لماذا قد تفعل ، الأيام تمر ولا أحد يشتكي من حلواها ، بل إن من ذاقها مرة ينتظرها في المرة القادمة ، ظن بعض التجار في باديء الأمر أنها تقوم بالدعاية لدكان جديد ! هل ستكون منافسة لنا على لقمة العيش ؟ لكن العجيب أن الاستطلاعات كلها باءت بالفشل ، إنها لا تدعو أحد ولا تطلب المقابل ! فصاروا هم أنفسهم ينتظرون أن تمر بابهم ، تتبضع أي شيء كي يسألونها إن كان لديها فيض من حلواها ، ولم تكن ترد سائلاً !

صار الصبي في المتجر البعيد صديقاً مقرباً ، خاصةً عندما اختصته بأجمل مذاقات حلواها ، كان يسكن على مقربة منها ، طلب منها يوماً أن يكون مساعداً لها في مقابل الحلوى ، عرضت ألا يفعل وتعهدت بنصيبه المحفوظ ، لكنه أصر أن يفعل ما يستحق مقابله الحلوى ! وافقت !

يحضر الفاكهة صباحاً ، ثم يمر قبيل العصر ، يتشمم رائحة جمالها من بعيد ، يخبرها أنه يجوع من الرائحة مهما أكل ، تضحك ، تعجبها فصاحته على صغر سنه ، تعطيه نصيبه وتهم بالخروج لتوزيع البقيه ، كلٌ ورزقه !
يتحرك الصبي كرجل راشد ، بحسم يقف أمام الباب معلنا حمايته لها من متاعب الخروج ، يعلن أنه سيتولى التوزيع ولكنه سيحتاج دراجتها ، ترفض ، صداقتهما الآن تمنحه القوة أن يرد بحسم ... " لقد قررتُ "
يعجبها اعتزازه برجولته المبكرة ، تبتسم ، تراه كطفلها ولا تعرف كيف يتولد ذاك الشعور أنه ابنها على الحقيقة ، أن بينهما حبل سري خفي ، أنها شعرت بذات الأمر حينما رأته أول مرة في المتجر ، روابط الروح تفاجئنا !

قبعة تبدو نسائية ، تقص منها الريش المجنون ، وتعدل مظهرها لتناسب طفولته النضرة ، يعتمرها ، تبتسم ، " الآن أنت مستعد يا فتى الحلوى " يؤديها التحية ويمضى مختالاً بألذ حلوى يحملها منذ فهم الحلوى !

عندما تقتل الحياة أجمل الأشياء لدينا ، نهرع من الخوف إلى أشياء أخرى ، نكسر تراتيب الحياة المفروضة كي نخبرها أننا غير معنيين بما تقضي علينا ، نرتدي ألواناً زاهية جداً ، نبالغ كثيراً في التبرج ، نستخد عطوراً نفاذة ، كي نخبر الحياة أننا مازلنا زهاة نضرين !
ونحن غير ذلك ، تتشح قلوبنا الأسود ، ونغوص برمادية أرواح أشباهنا ، ونذبل على غصن العمر الربيعي ، ويختفي من شدة الغيم قوس قزح !





في سكونه القاتل ، يرى ألوان مطبخها تزهو فيظنها كذلك ، يغرق في سراديب روحه الرمادية ، ويظن روحها مازالت تزهر بورد البرتقال الأبيض ، ليبتعد أكثر ، وتذبل أكثر ، وهو في غَيــِّه يتمادى !! 

هناك 6 تعليقات:

  1. رااائعه ..
    رااائعه مرة أخرة ..

    ردحذف
    الردود
    1. :) شكرا ... بالمناسبة أخرى ;)

      معلش هتعبك تتابع المنشور جديد لإني مش هعرف ابعتلك :)

      حذف
  2. سارة .. سحرتيني بجد
    سلمت يمينك ويسراكِ معا
    تحياتي :)

    ردحذف