السبت، 16 مايو 2015

يغمرها النور !

على شاطيء النهر .... كرسي خشبي قديم ... من جوانبه يزدان بتفريعات ورقية من القصدير ... بعضها كان في السابق ملونا بالأخضر ... تتوسطه منمنمات وردية الشكل ودائرية كأنها الربيع ... بأحمر باهت وأرجواني .. عنفوان الأرجواني يغلب جرأة الأحمر في خجل يطل من تلك الوردة التي اكتشت بطبقة غير قليلة من ذريات التراب والمطر :)

بدا الأمر متعباً جدا في الصباح ، السعي المتواصل وراء الرضا ، حالة الاهتمام بكل التفاصيل الدقيقة ، حالة المراقبة لذرات التراب أن تفسد النظم المضني ...
السير هنا متواصل ... يصل حد الركض أحيانا حتى وأنت جالس أمام مكتبك .... التعب ... الأنفاس المتلاحقة كالأفكار التي تتصارع ...... وتتسارع ... الصباح مثقل جدا .. حتى كأن الظهيرة تتسلل إليه بخجل شديد ... أوشك يوم العمل على الانتهاء ... يجمع شتات أفكاره ... يرسل آخر رسائله .... يعلق خطته لليوم التالي فوق مكتبه ... يؤشر على المهمات التي يجب إنجازها أولاً ... يضع حاسوبه وجملة أغراضه في الحقيبة ... يتسارع الوقت مثلما قلبه ... يكتب رسالة نصية قصيرة ... يرسلها .. يبتسم .. يحمل حقيبته ولا يمشي بل ... يطير ..

بعض الألم يسري في رقبتها ... تنحني وتنتصب ... تسرع الخطا ... تأكل شيئا سريعا وهي تركض في محاولة اللحاق بالمهمة التالية ، إنجاز عمل فردي ... ثم جماعي ... حضور اجتماع هنا .. مناقشة عمل هناك ... الجري من جناح لآخر ... مع آخر دقات الساعة ... تبتسم أخيرا ... تركض لتجمع حقيبتها ... ترشف آخر قطرات في قارورة المياة معلنة بذلك بعض الهدوء لنفسها .. هاتفها يرن .. تتراقص في حب .. " ألقاكِ بعد قليل " .. كفيلة بتسارع قلبها أكثر .. وهدوء يجتنفها أكثر وأكثر ... تحمل حقيبتها وتجري ... تودع كل من يقابلها بين بسمات وقبلات طائرة ... يغمزها أحدهم ... ترتج ضحكتها عالية .. وتكمل طريقها تتقافز كما الفراشات تغلبها النشوة .. وتكسوها السعادة ...

يخرجان من حيز العمل الضيق والخانق ... كلاهما يشتاق صوت صاحبه ... تهاتفه ... كأنما لا تطيق شوقاً للقاء ... يرد بشغف شديد ... كأنما يريد طي المسافة الآن الآن ... ليصبح معها على ضفة النهر .. لا شيء يهديء قطار الشوق مثل تعانق أصواتها ... فيسري بعد ذلك في هدوء ... ثم قد ينتقل إلى المربع الخانق فيتناولان أحداثه المهمة أو اللامعة أو المضحكة أو الجديد أو شيء مثير للاهتمام أو جدير بالحكي .. أو شيء تود إخباره به مهما كان تافهاً .. يسمعها .. ويناقشها .. ويتفاعل كأن الأمر جلل ... يهدآن .. يبتسمان كطفلين ... يقطعان الطريق ببطء .. رغم أن الوقت يمر بسرعة !

صفحة النهر رائقة جداً ... تبدو اليوم بشكل مثالي ... كل يوم قبيل الأصيل كأنها تنتظر معهما لحظة الوصول ... كأنها تهذب تموجاتها فلا ينكسر الضوء بل ينحني ... بجعات النهر ؟ البط ؟ طيور النهر البيضاء كعصافير الجنة الملونة ... تبدو كدمىً لامعة ... ما بين سابح في هدوء .. وبين راقص فوق الشجر ... كأن الجميع يعرف نفس الموعد !

يسبقها ... يجلس يتأمل عقارب الساعة ... يريح رأسه على ظهر المقعد العتيق ... يغمض عينيه ويذكر ضحكتها فيبتسم ... تظهر ثناياه لتنير ثغره ... تبتسم ... ماذا يضحك ؟
يفتح عينيه ... تتسع البسمة ... يفتح ذراعه ... تقترب لتجعله مسند رأسها ...

يدور حديث طويل جداً ... أحيانا تقاطعه ذبذبات الحروف حينما ينطق أحدهم كلمات مقتضبة جدا عن هدوء النهر ...
يتابعان حركة الشمس على تلك الصفحة الفضية ...
يلقيان كل شيء عن كواهلهم المثقلة
شيئا فشيئا يصبحان طفلين .... تماما كما كانا وكما تمنَّا ... يسرحان في لعب العصافير .. في حفيف الشجر .. في النسمة التي تداعب خصلاتهم .. في شعرها الذي يغطي وجهها فيزيحه عنها بهدوء ...
البرتقالي يكسو الأفق ... يجعل كل شيء يشي بالبهجة ... يميل الظل على وجهه ... ويغمرها النور ... فلا تدري وهي غارقة في تأمله .... هل نور الأصيل الذي يغمرها ؟ أم نور عينيه وحنو نظرته ... ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق