الأحد، 19 يوليو 2015

4- أخــضــر !!


وسط هذه العتمة ، يترائى كل شيء في هذا الطريق كأشباح ليلة ، منتصبة أو ممدة في تعاريج غريبة ، يبدو كل شيء في درجات ضبابية متفاوتة ، بين الحلكة وبين الأبيض المخطوف ، شيء يوحي بمغص ، ويوحي براحة عجيبة ، يوحي بكل شيء !

ملامح طريق لا تتسع إلا بعد اقترابك من نقطة النهاية أو تظنها كذلك ، ضيق هذا الطريق جدا ، الأسود القاتم يضيق بالمكان مهما خلا ، ويغدو كل شيء يقترب من بحر الطريق الواسع ضيقاً جداً فوق صدرك ، كأنه يحسر سيارتك من جوانبها ويختنق بك .

هذا الأسود الحالك يشتد دوما قبيل الفجر ، هكذا يقولون ، يهبط ببطء لكنه يجثم على ضحيته من المزارع والطرق كالموت ، كثوب أسود قاتم التعاريج أسدل من توه على واحة دافئة فجعلها صقيع مقفر وكالح !

يقاتل الفجر دوما ، هكذا عهدنا بالفجر ، كالأمل كالحب ، يبدو متعباً وصغيراً في بدايته ما يلبث أن تصيبه صفرة المرض ، نظن أوانه قد حل ، فما يلبث إن صبرنا حتى يصير نهاراً كالحريق ، قوياً وجريئاً ، يصرخ في الكون برعد واضح ومفهوم ، لا محل للظلمة هنا.
لو صبرنا !

الطريق المتعرج يمسح ضبابية الأشياء رويداً رويداً عن السحر ، نسيم يعصف بقلبه الخائف والمتردد ، قلبه الذي يقسو في محل الرحمة ويرحم في مواقف الحزم ، قلبه الذي يضطرب بين جنبيه بشيء من جنون ، لا يكاد يبصر أي شيء حتى يرتعد في ركن ركين يختبيء فيه عن كل شيء ، حتى نفسه ، نسيم يضرب جدران قلبه بالحياة من جديد ، يضرب جذور أمل غير واضح القسمات كنطفة جنين في رحم ضلوعه التي صارت كأشواك حديقة قفر خربة ، مَــيْــتٌ هذا الصدر بدون حب ، ضلوعه أشبه بأسوار السجن ، وجلاد يقف على بوابته من ناحية الرأس ، يقتل فيه كل نطفة أمل جديد ! يا ويل هذا القلب !

رائحة الأخضر ( نعم ، للأخضر رائحة عذبة ) تفتك بكل الجلادين ، تخترق أسواره السوداء كعيدان الشوك اليابسة في أرض ميت !
تخترق كل ساحاته ، لها برودة تلامس صدره من الداخل كأنها ترسم له بطانة أخرى من النسيم غير بطانات الدم ، وتضفي عليه لوناً جديدا !!

كلا ، إنما تحيي فيه ألوانه الزاهية من جديد ، أخضر هو كعود الريحان الناعم ، يشق الطين بوجه مشرق وبريء ، له نظرة تقتل كل آفات الشر في العالم ، وضمة تحوي كل الدنيا إن اتسعت ، كعيون الأطفال تبدو جوهرتيه إذا تأمل أو تبسم ، لا شيء يعلو محياه غير بسمة عذبة ، وصوت رخيم !

هكذا هو ، هكذا كان ، هكذا يخفي الأخضر ويهمله .

أراح رأسه للوراء ، الضوء يتسلل ويكشف خبايا المزارع المحيطة ، الشجر الذي بدا لساعة مضت كالشوك والأشباح والمومياوات الهاربة بدا باسقا للسحاب في شموخ ، أو ناعسا تجاه الأرض في رقة ودلال ، بدا يمتاز اللون البرتقالي لثمار البرتقال التي تسعد بالشتاء القادم ، ويتوهج الأحمر لزهرات ندية ترسل عبيرها في أحضان النسيم .

نسيم يكسر كل حواجزه المسلحة ، يعصف به كما يعصف به جنون البحار .

ترك سيارته للمقود الإليكتروني ، أغمض عينيه ، واحتل ذهنه وشاح أخضر ، كانت رائحته مزيج من زهر البرتقال ونسيم الربيع ، كان أخضره يأسر ، ناعم وزاهي ، يخطف العين ولا يؤرقها ، يريحها ، يهدهدها ، يحملها كطفلة ناعسة في حجر أم حنون ، يلفها بدفء حتى تبتسم ، أو تجعله لون بؤبؤها وتنام على تلك الصورة !

أول حائط لونه كان بذات اللون ، هذا الأخضر الزرعي الدافيء ، كان وسم تلك الغرفة التي خصصاها للقراءة والموسيقى والرسم ، غرفة موزعة بين الأخضر والخشبي ، تطل على حديقة صغيرة ، يكون شذاها كطفل مشاكس كل مساء فيملأ الغرفة برائحة الخضرة العذبة ، وطفل ناعم كل صباح فيهمس لها بنسيم الفجر .

يزعجه أخضره ، أخضر قلبه وأخضر ذاكرته وأخضر النسيم الذي يغرقه في اللاشيء وفي كل شيء ...

يفتح عينيه فجأة ، يقفز من جلاده سؤال ، هل ما زلت أخضر كما كنت ؟ كما التقينا أول مرة ؟ ام أني حقا بت كأشواك الشتاء ؟ سوداء وضبابية وشبحية ؟ لا رائحة ولا مَــعْــلَـم ولا نفع ؟ هل هذا الأسود دائم ؟ هل يعود الأخضر مثلما كان ؟ ينبت من جديد ؟ يبث الحياة كما يفعل هذا النسيم في أرض قفار ؟ هل هكذا تموت الأشجار ؟ سوداء قاتمة بئيسة ؟ بلا عصفورات تغرد ولا نسيم يطل ولا ندى يمسح عنها ألم الدنيا ؟

يفرض الصبح وجوده على كل شيء ، الطريق والشجر وزجاج سيارته ، يتعرج في دورانه المتتالي يمنة ويسرة ، يدور ، يستقيم ، ويلوح منزله من بعيد ، كهل حزين ، كأنه أصابه الشَّيخ ألف مرة ، كأن العنكبوت يلفه كما يلف نبت شيطاني شجرة تين خضراء بل ومثمرة !

كان هو كالبيت ، كان كأخضر التين ، كان مليء بالضباب ، بالتراب ، بخيوط العنكبوت ، لكنه كان بالنهاية ..... أخضر ! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق