الأحد، 27 ديسمبر 2020

عباءة جدي

 اعتاد جدي رحمه الله على هذا الأمر! أن يفتح طرف العباءة وأن أتكور بداخلها، يقوم بالأمر بشكل تلقائي، وأنا آخذه كحق مكتسب، يمسك جهاز التحكم ويقلب قنوات التلفاز كلها، وأنا أشاهد وانتظر أن يستقر على قناة، قد يعجبني فيلم، أقول له "ارجع كده يا جدو" فيرد " لا ده فيلم بايخ خليني أشوف حاجة تانية"

تمر ساعات وأنا متكورة مثل قطيطة، لم ألحظ قبل اليوم أني لم أكن ألتحف العباءة فقط، بل أستند بكلي عليه،، كثيرا ما يلف ذراعه حولي ليزيد دفئي، كان يسهر معظم الوقت، وكنت أحب السهر منذ صغري، فيصفو الجو معه، نشاهد المعروض في ليالي الشتاء الباردة إلا من ونسه ومحبته الخالصة، ولا نقوم إلا وقد نفذ ما نشاهد، أو غلبه النوم، فإن أصررت على البقاء أودعني عبائته، ولفني بها جيدًا وقال بصوته القوي " متسهريش كتير الفيلم يخلص تقومي تنامي على طول واطفي التليفزيون"



ظلت رائحة جدي في أنفاسي طويلا، هذا المشهد أعاد لقلبي تلك الرائحة، لا عجب أن عقلي أنكر موته لأكثر من أربعة أعوام ... لا عجب أن عقلي أيضا ألغى الذكريات لفترة طويلة بعدما اقتنعت بموته ... لا عقلي ولا قلبي احتملا هذا الفراق!

لفترة طويلة أجنب قلبي الصدمة، عقلي يعرف أنه مات ولكن قلبي لا يحتمل، لا أدخل غرفته العبقة بعطره، ولا أسأل عنه، كثيرًا ما كنت أنسى أنه مات، يراودني السؤال، ثم في لحظة النطق به أمنعه، يقول عقلي في ذهول حقيقي "هل تسألين حقًا؟ هل أنت مستعدة لسماع الإجابة؟"
ألهي نفسي، أسليها بأمور كثيرة حدثت بعد موته، فراقه فكرة مرعبة، أن تفقد كل السند وكل الحب وكل الدعم وكلَّ كلِّ شيء دفعة واحدة فكرة مرعبة بحق .....
أراه في منامات كثيرة، كأنه كان غائبا عن البيت ثم عاد، أهرع إليه وأرتمي في حضنه وأبكي بقهر، أخفوك عني مثلما يخفون عني كل جميل!!! لماذا استسلمت لهم؟ لماذا سمحت لهم أن يخفوك عني؟ لماذا قالوا لي أنك مت!
أحلام كهذا تراودني، حضن يكفيني لفترة، بكاء مرير لم أتخلص منه في الواقع، شكوى، اشتياق، بدأت أوقن أنه مات، وأنه لن يعود، فاحتال عقلي حيلة أخرى وهي الرضا بالموجود، فانتبه أكثر لدراستي، وصار عقلبي يدفعني أكثر نحو القراءة التي أجد فيها سلواي، لكن لا شيء حقق لي دفء عباءة جدي، وهذا الأمان، والسكون لسنوات تالية ....
رغم أني عايشت السكون مرة أخرى، رغم أني لأوقات طويلة نسيت فاجعة جدي حتى كبرت كفاية أن يعاب على مثلي رثاء جدها، وكأني ألزمت عقلي لجاما جديدا، "اكبري ... انضجي"
الفقد مرعب ... مؤلم .. عسير .. يجربه المرء مرة فيفقد اتزانه، وأنا اختبرته مرتين، ما إن قبلت الفقد الأول وتعايشت معه، حتى ذقت لوعة الثاني، فقدت اتزاني، قرابة الخمس سنوات الآن، لا أعرف متى يمسك عقلي زمام الأمور وينقذني من التيه، لكني أعرف صدقًا أن عباءة جدي رغم خشونة الصوف كانت الأرق والأرأف بحالي، وأنها كانت أكثر الأماكن دفئا على وجه البسيطة، وأنها كانت الأمان، وأنه صوته على البعد كان كل السند وكل الحب، وأني الآن يجب أن أقف وحدي، وأن أتمتع بشيء من الحب من نفسي لنفسي، لتلك الطفلة المذعورة التي لم تبكٍ كفاية، ولم تفزع كما يجب، ولم تهرب بأقصى سرعة، ولم تصرخ بأعلى صوت، ولم تتكور في جنب الأرض ترتجف من الخوف، ولكنها ربطت قلبها لسنوات وهي مراهقة حتى انفجر وهي شابة، وما إن لملمت أشلاءه حتى اصطدم ثانية، ربطته لشهور وانفجر لسنوات، وأظهر كل الفزع، وكل الرعب، وارتجف حتى كاد يتوقف، وبكى حتى جفت مدامعه ولم يجف نزفه، وقضت من شابة إلى امرأة في محاولات للوعي، محاولات لشق النَّفَس بين أكوام الألم وجبال من الثقل تقف على قلبها وعقلها، أمنح تلك الطفلة الفرصة للبكاء من جديد، والفزع، والخوف، والنهم، والالتصاق بالأرض بلا حراك، ومراقبة السقف بلا كلمة، والشعور بالفناء، وتخطي كل هذا على مهل!

كل مُـــرّ سَـيَمُـرّ!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق