الخميس، 10 ديسمبر 2020

عندما نستوطن ..

عجيب أمر الإنسان يستوطن اليوم ما كان بالأمس القريب غربة ووحشة، يعتاد الوحدة وتصبح أحب إليه من الصخب والأضواء والزحام والأشياء اللامعة، يأنس بالصمت، ويحادث الهدوء، ويسمع من النسيم أصواتًا وحكايا، وتصبح الموسيقى كعادتها الوليف الأكثر ألفة، والصديق الأخف روحًا!

في خطواتي الليلية، أخرج من بيتي الصغير البعيد عن كندا، بعد منتصف الليل بقليل، أتنسم الهواء العليل، أضم سترتي، وأجرّ السحَّاب ليلملم عظيماتي وأحشائي، ويمنحني بعض الاستعداد للسعات البرد الشتوية المحببة، أبدأ المسير، وصوت الست أم كلثوم يرن في أذني ليذهب مباشرة لقلبي يهدهده كأم حنون، تعيد على مسامعي وصفولي الصبر، وتشرق في نهاية الأغنية ب وهل الفجر بعد الهجر، يرتفع الطريق بي إلى تبة متوسطة الارتفاع، بديع ما يفعله الإنسان أحيانًا حينما يتماشي مع سلوك الطبيعة ولا يعانده، السير في مرتفع عكس الجاذبية يذكرك بسلوك المقاومة الذي صار جزءًا لا يتجزأ من روحك، في السابق كنت لألعن اللحظة التي قررت فيها السير ليلًا، كنت لأتراجع، كنت لأغش في عدد الخطوات، كنت لأبكي أحزاني جميعًا وأسترجع كل العثرات فقط لإنني سأخطو عدة أمتارٍ في عكس اتجاه الجاذبية، لكني اليوم امرأة أخرى، أسعد بتلك الخطوات التي تشد عزم ساقي الضعيفين، وأشجع تلك الصغيرة بداخلي على المضي، وتنظر المرأة التي أكتشفها فيّ إلى السماء والنجوم وتنعم بالنسيم، والشابة المرحة تتلفت حولها تسترق الأنوار، وتلك الانطوائية تنطلق مثل الفراشة، وتلك الحازمة تتخذ القرار بهدوء تجاه المضي، الجميع بداخل راضٍ عن تلك الخطوات المرتفعة، الجميع بداخل متعاون وسعيد، كل يركض وراء أمرٍ مشوّقٍ لطيف وجميل، مازالت عبلة كامل حياتي تستمع في ركن بعيد إلى أم كلثوم، تصبح تلك العجوز ظلا واهنًا جدًا كوهن الذكرى التي تستدعيها الأغنيات، تبتسم المرأة التي أعرفها اليوم عن نفسي ولا تندم لحماقات الأمس، تتذكر جملة من الأغنية (يامسهرني) عندما أرسلتها تلك الانطوائية الساذجة لأكثر رجل أحبته في العالم تمازحه بها على خجل ومهل! أذكر هذا اليوم، أذكر ثورته فيها، أذكر فزعها الذي لم أعهده في نفسي، أذكر أنها بكت فجأة لأنها لأول مرة تشعر أن أملها لم يعد يفهمها، أذكر كيف تولت المرأة الحكيمة الزمام في هذا اليوم، أذكر أن الفتاة الانطوائية بداخلي أرضت نفسها بكلماته بنهاية اليوم التي كانت "بلا طعمة" لكن الشابة التي تحاول اقتناص الفرح كانت تضخم كل الكلم المعسول!

نكون غرباء جدًا، ليس فقط في العالم، وليس فقط على الأرض، وليس فقط تجاه الحدود، ولكن بدواخل أنفسنا، حينما لا يصبح "ما يجب علينا فعله" شبيها لـ "ما نود فعله حقًا"، وحينما يتملكنا الخوف، فيتولى غيرنا زمام الأمور! 

أتعجب حينما نخرج من أوطاننا، نستوطن الظلام، ويتوطن العفن والخوف والبرد، ونعتاد الوحشة والخوف، ونعتاد الموت الذي يشبه الحياة، ونظن أننا بألفة الأشياء نجونا، أو بالغربة عن المألوف سنهلك، ثم من حيث لا ندري نستوطن أمورًا جديدة، ونستوطن الشطآن المريحة، ونسبح في المياة الصافية، ونعرف الشمس، ونتذوق حلاوة القمر، ونراقب النجوم كل ليلة في شغف، حتى أننا نشتاق لأرض لم تكن يومًا بلادنا، ونألف السماء وتألفنا، وتشعل لنا كل ليلة نجمًا تواقًا لكل الحب الذي نمنحه بمراقبته على طول الطريق!

تلك المرأة الطيبة التي تسكنني كانت مرتاحة الليلة، رغم كل اضطرابات النوم التي لم تختفي، ورغم كل الفزع الذي يقض مضجعها ومضجعي كل ليلة وحتى لو حاولت النوم ساعات النهار، ورغم الوحدة الحميمة، ورغم الغربة التي لم تعد غربة، ورغم الليل الذي صار أليفًا وليفًا، كانت تسير مع الجماعة، كان الجميع في قلبي يهنأ ... بالنجوم ... بالنسمات ... بصوت الست ... بعتاب الصبر الذي له حدود .... بتحدي الجاذبية الطفولي .... بجسمي الذي صار صديقي ... رغم اضطرابات الأكل والنهم ... رغم زيادة الوزن المقلقة ... رغم هبّات الحساسية التي لا تحمل تفسيرًا طبيًا منطقيًا .... رغم الاختناق الذي يصيبه في عز النوم فيقتل الدقائق التي يغفل فيها بحق .... لكنه سعيد وراض عني ... وأنا أحبه وراضية عنه ... ومسيراتي الليلية تمنحني الجميل والجميل لأعده .. ولأحتمل الحياة قليلًا أكثر وسط البشر !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق