الخميس، 28 أغسطس 2025

تلك الظلال ... ليست صديقتي

 هل تعرف هذا الشعور في ليالي الشتاء الطويلة، ونهارها القصير، القصير جدا، حينما تعتم الشمس بالغيوم، فتنام مبكرًا جدا، قبل المغرب، وتستيقظ فجأة في منتصف الليل بسبب كابوس مزعج طويل، تتعرق تحت الغطاء الثقيل، وتلهث أنفاسك، تشعر بمرارة العطش تخدش حلقك، ورجفة الخوف تتسرب إلى قلبك رغم الدفء الشديد الذي جعلك تتصبب عرقًا؟ تبحث عن أمك، فلا تجدها، تدرك فجأة أنك صرت أنت الكبار! لا كبير آخر تختبيء فيه، ولا حبيب بجوارك، لا يظهر على حائط الغرفة الشبه مظلمة إلا الظلال.

الغربة مثل ليل الشتاء الطويل، فراشه وثير ودافي، وحلقه مليء بشوك العطش، تتصبب عرقًا لأن الدفء تخلل عظامك، وترتجف لإن الخوف سبقه إليها! وأنت الكبار، لا مجال للعودة، وليس لك من الحياة إلا صديق! خل وفي! وصديقتي .. ليست تلك الظلال التي على حائط الغرفة!

أنا أعرف صديقتي جيدًا، منذ ما يقرب من العشرين عامًا، عرفتها أكثر من نصف عمري، أحبها، أول ما عرفتها كان لإنها وبعصبية شديدة دافعت عني، لا أعرفها ولا تعرفني، لكنها لم ترض أن ينبش لحمي من وراء ظهري، قالت لي حاذري، بنبرة مقتضبة، وحاجبان مقضبان، وأعين تشع بالغضب، قلت لها حسنًا، شكرًا! وجهها، لولا نظرة الغضب تلك، سمح وبريء، ناعم، جميل، وجسدها، الذي يتعاظم بمواقفه، نحيل، مثل عصيات خيال مآته، لا تدري لماذا ياعم الزمن كل أحد إلا هو! أخرجت من رحمها روحًا، ويأبى جسدها أن يحمل إلا الهم! أما اللحم؟ فبينه وبين جسدها عداء غير مفهوم!

في ليلة حالكة، اختفت صديقتي، قلبي يحدثني أنها ليست بخير، لكن عقلي يقول أنها ربما منشغلة، يلتمس لها الأعذار من ناحية، ويطمئنني من ناحية، لكن قلبي لا يكذب، شهر، شهرين، ثلاث، قلبي أعرفه يشك ولكن لا يكذب، قد يخطيء ولكن لا يكذب، قلبي الذي أظلمه دومًا ويحميني دومًا حتى صار مريضا، لا يكذب! يقول لي إنها ليست بخير، إنها اختفت، وليست كالتي نعرفها!

التقينا، أخيرًا، وجهًا لوجه، ولكن، رأيت ظلالًا تشبه الصديقة وليست هي، ليست تلك النحيلة التي أعرفها! صديقتي لا تكذب، لا تتزين، لا تهادن، لا تحب الرمادي، لا تختبيء، لا تستسلم، لا تسلك الطرق الخلفية، ولا تحب الأماكن الضيقة، صديقتي تزرع الورد، وتكره الشوك حتى وإن قبلته على غصون ورداتها، تكره الألوان الباهتة، وتكره الأطعمة الغير صريحة، تشعر أنها أكلات كاذبة، وصديقتي لا تكذب، صديقتي تحب النور، تحب الشمس، تحب الربيع، وتعشق المطر، الغيوم تجذبها، وإن لم تثمر لها بالنظر فإنها تنقم عليها، تلك الغيوم الثقيلة تكثر الهم، ولا يغسل القلب إلا المطر، صديقتي تحب الخيل، والكتب، تحب الحياة، والنجوم، ولا تكره مثل الافاعي المتلونة! فكيف؟ كيف تتكون تلك الظلال على وجهها ولا تراها؟ وكيف تجد في جلود الافعى أية منفعة؟ وكيف تقبل؟ بنصف الحب؟ ونصف الأمن؟ وشبح من خيال يخبرها كل يوم أنها في زاوية رطبة وعفنة لن تخرج منها إلا بالنور، وكيف لصديقتي أن تغلق النوافذ بفعل يديها؟ ولا تنتبه؟


تلك الظلال ليست صديقتي!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق