الاثنين، 14 أغسطس 2023

السقوط الحر والإشارات الخفية!

 الاكتئاب ... صديق قديم .. صديق صعب .. أصحاب الاكتئاب لا يسمونه مرضًا لإن وصفه بالمرض يعطيهم أمًـلا بزواله .. ولكنه يتحول من زائر إلى صاحب بيت .. إلى شبحك وظلك الدائم!

إما أن تركض منه .. ولكن إلى أين؟ أو أن تصادقه .. تقيم علاقةٍ ما معه فيصبح من حقك أن تغضب منه وتتجاهله وتتركه خلفك بالأيام وتسافر إلى مكان آخر، وتتصالح معه، فلا تجد غضاضة في تقديمه لأصدقائك إن رأوا ظِــلَّه على وجهك وتحت عينيك، أو في زيادة وزنك أو نحافتك الملحوظة، ولا تجد حرجًا أن تصف إحدى نوباته لعابر سبيل .. كوالدٍ يخفف عن والدٍ آخر عناد طفله الصغير الذي صرخ وسط السوق وارتمى على الأرض يمرغ وجهه في التراب!

الاكتئاب يعطيك شجاعة السقوط الحر، أو لا مبالاته، كالمثل المصري ( ضربوا الاعور على عينه!) وبالمثل العربي وما يضير الشاه سلخها بعد ذبحها؟ لا شيء!

الأمل نور لكل الناس إلا لصديق الاكتئاب، الأمل لعنة! ولهذا تصالحنا على اتفاق سرّيّ للغاية، أن نسخر منه!

من أنفسنا معه، من الأعراض، من الموت، من الصدمات المتتالية، من متلازمات الأمراض، ومن أعراض كرب ما بعد الصدمة، أن نحصي المراحل، وأن نتسابق إليها، وحدنا!

أغبط هؤلاء الشجعان الذين احتملوا فكرة مجموعات الدعم، أشعر أنهم أكثر قوة وشجاعة مني، لإنهم وافقوا أن يتعروا أمام بعضهم، ولكنهم فازوا بتلك النقاشات الجماعية المثيرة والمضحكة، المضحكة جدًّا حتى وإن بدت مثيرة للشفقة وضربًا من الكوميديا السوداء!

ولكن .. هذا لا يقلل من الجبناء أمثالي الذين اختاروا الجلسات الخاصة، والذين يمتثلون تمامًا لعهود أصدقاء الاكتئاب واضطرابات الشخصية والقلق والصدمات النفسية وكرب ما بعد الصدمة والانهيارات العصبية وغيرها من ذات السخرية السوداء التي تجمعهم بلا موعد وبلا اتفاق مسبق، أشعر أن السخرية أصبحت عرضَا جانبيا أو متلازمة للمرض!

الأمل مرعب ... والنوبات هوّة سحيقة، الثقوب السوداء تماما إما أن تتيه فيها أو تطوي الكون لك!

الأمر يعتمد على قدرتك على السقوط الحرّ!

درويش كتب "قاوم" و "لا تصالح" ولكن دستور الاكتئاب هو التصالح، وشعاره الحرّ لا تقاوم!

النوبات تشبه النوّات وموجات السحب، لا تقاومها، بل تستسلم لها حتى تمر قوتها كي لا تسحقك، ثم تسحب نفسك خفية إلى أقرب لوح خشبي .. لا شاطيء يظهر .. نحن بحارة بالقسر بلا مرساة.

عند الغرق، جُـــلّ ما عليك فعله هو محاولة الحفاظ على جسدك طافيًـا، وهذا لا يتأتَّـى مع رفع اليد بغية طلب النجاة، لإن رفعك ذراعك عاليا يضغط على الجسد وينقله للأسفل، وبالتالي، فرص الغرق أعلى من النجاة، كذلك لا يجب عليك أن تضرب الماء بكل قوة، بل ألا تتحرك كثيرًا، وأن تتنفس بانتظام، ابقِ جسدك كافيًا بأقل جهد، لإنك ستحتاج الطاقة، ستحتاج الحياة والنجاة، ارسل إشارات قوية ومؤثرة، اصرخ بصوت عالٍ أنك تريد النجاة، انتظر اقتراب أحدهم وقل له أنك لا تعرف كيف تخرج، أنك عالق هنا، وإن شعرت باقتراب قارب منك حاول الطفو على ظهرك كي يظهر جسدك كاملا على السطح جليا للناس، اعط إشارات واضحة..

في الاكتئاب، تخاف أن تعطي إشارات واضحة، أو تفقد القدرة عليها، أو تجهل كيف تطلب المساعدة، أو تخجل من طلبها، أو تشعر أنه ليس من حقك، ليس هناك من يقدمها، ليس هناك من يفهمك، من يستقبل الإشارة إذا بعثتها؟ ثم .. من أين تأتيك الشجاعة كي ترسلها؟

الإشارات الخفية، والاستغاثات الحيية هي آخر طوق نجاة، حتى وإن كان أول فعل نجاة من نظرك!

تلك الإشارات التي تراها ضعيفة، ومتواضعة في قوتها، تكون هي أقصى قدرة أحدهم، وكل ما استجمع من طاقته!

لكنه، رغم إقبال الموت عليه، مايزال يرغب، ولو قليلا، قليلا جدا، بالحياة!

يتبع ..




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق