الأربعاء، 30 يونيو 2021

السيدة الجديدة

 منذ أن عرفت الدنيا وأنا لا أطيق قلة النظام وعدم النظافة وبنفس الوقت أتعثر بأعمال البيت!

ربيت كابنة برأس ولد، ونشاط ولد، وتصرفات ولد، هكذا كن ينعتنني، أنا لا أجلس مع عرائسي، بل أحب سباقات الجري، وأحب لعب الكرة، والاستغماية، والحركة، وتسلق الأشجار وخلق بيتًا من خيال بين أغصان الشجر، وألعاب الفيديو، والقراءة والتلوين، ومشاهدة التلفاز بكلي!

أعيش نصف عقل، ونصف وعي، ونصفي الآخر هناك، في عالم خيالي جميل، أفكر دومًا في حلول عجيبة، كانت تثير حنق أمي، لأنها تريد دومًا البيت منظم ونظيف.

عانينا حتى نجد سيدة جديرة باستلام نظافة البيت، جربنا وجربنا وجربنا، نجد ونتعثر، وانتهت حقبة أمي لأبدأ الطريق وحدي!

وأجدني أتحول إلى ماكينة صراف آلي، أفكر كالرجال، جدوا لي سيدة تتولى البيت وأنا سأدفع!

غير أن أمي علمتني كل شيء، كانت تعرف خصالي، تقول دومًا عني: "لا جلد لها بأشغال البيوت، لكنها نظيفة وذكية ودقيقة ومتقنة، صحيح أنها تستغرق وقتًا أطول في إنهاء المهام، لكنها تتقنا بشكل غير مسبوق، كأني أنا التي قمت بها بل وأفضل، فهي ذكية وتريد أن تنتهي بسرعة في نفس الوقت" هكذا كنت، إذا قررت تنظيف غرفتي قد أقضي اليوم فيها، لكني أقلبها رأسًا على عقب، أرتب خزانة ملابسي، وأنظف تحت السرير، وألمع الحوائط، والشباك، وكل ذرة على مكتبي، والأدراج، والتفاصيل المملة، وأملّ كذلك وأتعب وأنهج، وأستريح، وأجد قصاصة ورق فأقرأها، وأجد كتابًا قديمًا وأحجية، وأجد بيت شعر أو قصيدة بدأتها فأكملتها ولم تعجبني، أو لم أكملها وأعجبتني!

وهكذا، ينصرف تركيزي لألف شيء، حتى أفيق من غفوتي بين الكتب، فأرتب وأنظم وأمسح التراب، وأرص، وأغير المفارش، وأكنس وأعود للعمل من جديد!

الآن صار البيت بيتي، بيتي صغير، لكنه واسع، لكنه صغير هاهاها، غرفة استوديو، شباك عريض لكن أتمنى لو كان أعرض، حشوت فجأة بهذا البيت الصغير أغراضي، فأسست لمكتبة، وأحضرت عدة التلوين، وكتاب تلوين ثقيل، وأدراج المكياج، والملابس، والأدوية، وأرفف من التوابل، والسكر، والنكهات، والمكسرات، والأكواب، أحب الأكواب!

في لحظة لا أمسكها من الزمن يتراكم التراب، في لحظة لا أمسكها من الزمن لا تكون لي همة بتنظيف كل هذه الأشياء، وطبخ الطعام، ومحاربة الاكتئاب، ومجاراة الوحدة، والهرب من الغربة في آن واحد!

حتى عرفت تلك السيدة الجديدة!

في أول زيارة لها أغرقت المكان بالماء! 
فزعت، سألتها: ماذا تفعلين؟
أنظف المكان، هكذا أفضل ... سترين!

بإنجليزية مكسرة، وقلب متعب، استسلمت لإرادتها، في قلبي أستغفر وأحوقل، أقول تلك المجنونة!
لكنها نظفت البيت بشكل مقبول على الأقل


في المرة الثانية، وعندما مرت إلى بيت، قالت لي بنبرة منبهرة: مس .. لقد سمنتِ!

أنا: حقًّا؟ حسنًا...


في رأسي سحقا لك! وتبًّا، هل هذا فقط ما رأيته!

لكني فهمت بعدها أنها مجاملة في بلادها!

تنتهي، وتهز رأسها في إعجاب شديد بسرعة فعلها، كنت حقا أحتاج مساعدتها ذاك الأسبوع، صارت تعرف أماكن الأشياء وترتبها حسب ما تريد، قررت مثلا أن ترمي شيئا خاصا يعاد استخدامه لألف مرة، لكنها رأت انه لا فارق بينه وبين ذو الاستخدام الواحد! فأضطر إلى مهاتفة أمي لتشتري لي غيره!

تسحب البخاخ المطهر من الحمام إلى تحت حوض المطبخ! نعم هناك أضع عدة التنظيف، لكني أريد المطهر في الحمام من فضلك!


في كل مرة أدور أبحث عن الضائع وفي رأسي: يا بنت المجنونة ودتيه فين!!!


وفي كل مرة تستقبلني بابتسامة!

اليوم، أستعد لمغادرة بيتي إلى مدينة أخرى، يجب أن أنظف كل شيء وأحزم حقائبي، طلبت مساعدتها فأتت، وفي منتصف العمل، تمت دعوتنا للغداء، لم أكن لأجيب، لولا الإلحاح الذي صار أمر على سماعه عن القتل!

قلت لها نذهب؟ وافقت!

صعدنا السلم لجارتنا، تشاركنا الغداء وشكرناها، في العودة قالت لي أنها تحب أجواء أصدقائي، غناء ورقص وطعام وفرفشة!


لسان حالها يقول: ليست الأجواء مثل بيتك يا كئيبة، تديرين أغاني أم كلثوم التي لا أفهم منها شيء، تغنين معها بصوت حزين يخرج الآهات من العمق، ولا تتقافزين مثلهن، وتكلمينني بكل جدية ونظام!

أشعر بك عزيزتي مانجو! أشعر بك تماما!

أنا امرأة ثلاثينية، ماذا تنتظرين مني! امرأت تحب الطعام والكلاب والكتب والموسيقى، تقضي يومها في تعليم الصغار، وتقضي ليلها في القراءة أو الكتابة أو الموسيقى!

امرأة تمسك المهمة فتريد إنجازها أسرع، بعيدًا عن التشتت، فتترك لك التنفيذ، لتخلو لأحلام يقظتها، وتشتت أفكارها!

امرأة ترفع سماعة الهاتف لتطمئن على فلان، وتذكر أمرًا لعلان فتسب وتلعن الذاكرة الضعيفة، ثم ترد على كذا، وتدلل أمها، وتستغيث بأخيها، وتدير أغنية لأم كلثوم كي تهديء من نوبات قلقها المتلاحق


لكن يا مانجو أتدرين ما المميز في تلك المرة؟ أنك أيتها السيدة الجديدة صرت تعرفين طريق الأشياء، تتصرفين في البيت كأنه بيتك، تتركينني لجنوني وعبثيتي، أغوص بين الأغراض فلا تعترضي، أقول لك سنترك الحمام للنهاية، فتجدينني منشغلة فتدسين رأيك بسلاسة، أغسل الحمام الآن؟ فأوافقك، أقول لك استريحي الآن، اجلسي، لن أخصم هذا من ساعات عملك! هل كنت تعرفين يا مانجو أنك إن شاركتني الطرب بأغنية "بعيد عنك" كنت سأصنع لك فنجانا من القهوة ونطرب سويًا؟

لكنك عملية بقدري، تغسلين الحمام، وتحركين الأشياء كأنه بيتك الخاص، وتتركين كل سطح يلمع ونظيف، وتتركييني أغوص في الصداع والأغنيات والأغراض المبعثرة، لكن صارت بيننا رابطة خفية، سنكتشفها يومًا، هل تحلين في يومي وحياتي محال "أرزاق؟" ويأتي اليوم الذي تفرضين خطتك في التنظيف رغم أنفي؟


لعلكِ!

في المرة التي بعدها،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق