الخميس، 25 فبراير 2016

١١- قمحية !

تميل بجزعها عليه بهدوء، تعدل شكل دائرة العجين، تقول برفق له " كلا يا عزيزي ليس هكذا بل أدرها بهذا الشكل لتصبح ناعمة الأطراف ومتناسقة"
يميل برأسه للوراء ثم يعود ليرى التعديل الذي وضعته لها، كطفل تعلمه أمه أصول الكتابة والخط، نظر لها متعجباً، كيف لتلك الملائكية أن تتشح بنظرة مكسورة في عينيها؟
يعرفها لأنه رجل خبير بأمور النساء، شيخ فوق الستين من عمره، قضاها بين ربوع الأرض يتنقل، شعره الرمادي يعطيه وسامة وجاذبية خاصة فوق جماله الطبيعي، ورقة قلبه ومرحه يجعلانه المفضل لكل طلاب الفصل من كل الأعمار.

فستانها الحنطي يميل مع بشرتها البيضاء، يضفي ضيّاً أخر لوجهها الذي ينيره الكستنائي بالضدّ، فإن الضدّ للضدّ أبين، تحب الكستنائي هذا، يشعرها بالدفء، بالوطن، أي وطن؟ لا تعرف لكنها تشعر بأنه لون الوطن!
حزام يلف خاصرتها بلون النبيذ الصارخ، ويتأرجح معها جيئة وذهاباً، تنورة الفستان واسعة قليلاً، تعطيها شكل دائري يظهر خصرها المنمنم، خاصة عندما يتشاكس لون النبيذ ويوسفي التنورة!

هذا الشاب هناك، يتابع حركاتها باهتمام، بحاول إتقان كل شيء تقوله أو تصنعه ولو لمرة واحدة، يتابع مرحها الرقيق وهدوءها المفاجيء وثورتها المجنونة، وحزنها الخلاب !

نعم، قد يصبح يوماً للحزن بريق آخر، بريق يفهمه من أنهكته الحياة، لربما طلَّ هذا البريق من إعجاب الشيخ بها، برى فيها كبرى بناته التي تركها في بلاد بعيدة ليستقر هو بأرض الوطن بعد طول اغتراب، رجل يميل إلى طباع اللاطبع، قد استقى من كل المناهل ، وعايش كل الثقافات المتضاربة، حتى صار ليناً جداً وسهلاً جداً، ولا يلوي على شيء! فقط يضحك ويغامر ويقامر ويبتسم لتلك الحياة التي لم يتبق فيها أي شيء له سوى المرح!

رغم انكسار النور في عينها، لا تتوقف عن السخرية من ذاك الوسيم، تعايره يوماً بحزن يلوح في سماء عينيه، " هل هجرتك حبيبتك؟" ينظر لها بلامبالاة ممزوجة بشيء من غضب وهدوء شديد، يعود لطبق الحلوى الذي يحاول تعلمه منذ أسبوع آملاً في أن يخرجه على أكمل وجه اليوم، تلاحظ هي انطفاءة حماسته، لا تفيد السخرية في إخراجه من شروده الذي لا يؤثر على حركة يديه المنتظمتين، تقترب، كلا يا عزيزي، لا تكثر من الطحين، هذا قد يجعلها صلبة مثل المرة الفائتة هل تذكر..." قاطعها: " نعم أنت محقة، انتظري" ، يصلح ما أفسده بملعقة أخرى من اللبن الحامض، قليل من السكر، ورشة من جوز الهند...

يشعر أن تلك الأم التي داعبت خصلات الشيخ كإنه وليدها البكر، ترعاه هو الآخر، تدب فيه الحياة من جديد، يفرغ ما قد خبزه في قالب حلوى، يضعه في الفرن وينتظر بشوق، بينما تنشغل هل مع مراهقة في الخامسة عشر من عمرها تحاول تعلم المربى، يعد هو طبق التقديم، يعد القشدة الحامضة التي تحبها هي مع الحلوى عالية السكر، بعض الكرز، أو بعض حبات العنب الأحمر، أم التوت البري؟

الرائحة تتصاعد، ويفور معها حماسه الشديد، يراقب الحلوى في الفرن، ويتعالى زهوه، لقد فعلتها، سوف ترون .

بنظرة معلمة تدرك نجاح الصغار ابتسمت، قالت: " لعلها كذلك تلك المرة" غمزت له بعينها، وتابعت مع الفتاة الصغيرة، أما الشيخ فكان مازلت يلعب بعجين الفطائر المالحة كما الأطفال، يشكل منها وردات صغيرة للآنسة، وفراشات للفتاة، وشارب كثّ لهذا الأرعن كما يناديه، ويطلب من أحد الصغار أن يقترح شكلاً للصبية الذين يلعبون في الخارج بينما أمهاتهن يتعلمن بعض الفنون هناك في الجوار !

يخرج حلواه الشهية، يزينها بطبقة سميكة من القشدة، يرش فوقها بعض الفواكه المجففة، يتبختر كالطاووس فرحاً وجمالاً، يقترب منها ويميل بحركة استعراضية، " حبيبتي !" تضحك وهي تتناول قطعة تذوب في فمها لقد أتقنها حقاً! "لست حبيبتك " وتستدير بحركة أشبه للإعتراض، يبتسم ويرفع صوته قليلاً " على الأقل أحاول "

يتنمر عليه الشيخ، يقترب من قالب الحلوى ساخراً، أعطني هذا أيها الأرعن، لا تحسن شيء، ينشغلان بالتذوق وإبداء الآراء والنقار ، مثل مشاكسات الديكة، يتشاكسان يومياً، ثم يعودان في لحظة مفاجئة لهمهمة جانبية كأن بينهما سرٌ عميق!

اعتاد الأبله ذهابها منذ الصباح الباكر حتى مغيب الشمس، لا أحد يقف بوجه امرأة إن أرادت الرحيل إلى نفسها، لا أحد يسرقها من عذوبة أفكارها الناعمة، إن نهشتها أظفاره يوماً، فلا يلومنَّ إلا نفسه!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق