السبت، 14 نوفمبر 2020

هل يصلح الوقت الأشياء حقًا؟

منذ زمن بعيد تعرفت على شاب، أكبر مني سنًّا، أحبه كثيرًا رغم أننا لم نلتقِ مرة واحدة، بين كل عام وعام قد نتحدث مرة، قد يمر عامين أو ثلاثة بلا حديث، ثم نتهاتف فنفرغ جعبتنا المليئة عن آخرها!

يا الله، أعتقد أننا بلغنا العشر سنوات ربما أقل قليلا، حقًا لا أذكرّ

لكنه كان بمثابة الأخ الأكبر لي، صديق مخلص وناصح أمين، هل تعرف أولئك الذين يهدونك عصارة قلوبهم بهدوء وصفاء ورضا؟ إنه من هؤلاء، يقرأ روحك على البعد، تقول له الكلمات المتلعثمة والمختلطة، أتعثر بأفكاري وأسقط وأقوم ألف مرة في جملة واحدة لم تكتمل، لكنه يسمع ويبتسم! على الجانب الآخر يبتسم،، أقول له : هل تفهم قصدي يا مينا؟ يقول: تماما يا عزيزتي..تماما!
في مكالمة طويلة، امتدت لساعات طويلة أيضا، قال لي: وجدتها، وجدت ما كنت أبحث عنه، أقول له أني وجدت قلبي التائه، ووجدت وليف روحي الذي أهدأ فقط لكونه هنا، هل تعرف كيف تسكن روح حائرة في سجن الضلوع يا مينا بعدما كان الموت خلاصها الوحيد؟ يبتسم: هو كذلك يا عزيزتي، هو كذلك، سكون وسكينة وهدوء ... أبادره: هل تذكر طواف أصحاب المولوية؟ يهزّ رأسه، يضحك ضحكته الرزينة الجميلة المحببة، أقول له: إني تائهة في كلماتي ووصفي، يدركني: أفهم تمامًا ما تشعرين به وما يدور بقبلبك يا عزيزتي! أفهمه جدًا، يصيب الداخل، الباطن، كلمات الروح التي لا يفهمها إلا من ذاقها، من ذاق عرف يا عزيزتي من ذاق عرف!

قلبه صوفي، هكذا أراه، عقله حر، هكذا يرى نفسه! 

يحكي عنها، كيف أنها تأسر روحه تماما، أقول له: أشعر أني التقيته في الغيب يا مينا، كأنني كنت أعرفه قبل أو أوجد هنا! يقول لي: في سكون الروح بجانبها طعم جميل، كأنه حلم، لا أريد منه أن أفيق!

ماذا هناك يا عراقي؟ .. أمازحه

يحكي كيف أنه غارق، يسبح، يجول كالمسيح الأرض والسماء، أنه وجد ضالته المنشودة أخيرًا وقد كان شبه مضرب عن الزواج!

كيف أنها "كل شيء" يخالف مجتمعه ويعارضه، كيف أنا مثلا على غير ديانته، وغير طبقته الاجتماعية، كيف أنها تعول أطفالًا، كيف أنها مطلقة وربما كانت أكبر سنًا قليلا، كيف أنه لا يرى ولم ير سواها بالنهاية، كيف أنها يسبحان في ملكوت خاص!

هو مسيحي النشأة، مع أفكار عقدية متحررة، يميل إلى اللادينية، يؤمن بالكل ولا يعتقد في أحد بعينه، يفر من القيود فراره من النار، يعارض الكنيسة ولا يكره شعبها، سوف يأتي معك احتفال ديني إن كان له روح توافق روحه، ولن يذهب لأبعد من هذا، ولن يجتنب التبسم في وجهك حتى إن سمعك تلعن أسلافه بأذنيه!

وهي، كما يصفها، امرأة حرة مع تحفظ شديد، روحها صوفية طوافة، تود لو تفر معه لآخر العالم، لكن روحها في ولديها معلقة، تقول له لن يسمحوا لنا بالزواج وأنت على دينك، كان ليغير دينه لأجلها، كان ليقف أمام مجتمعه المحافظ الأرثوذكسي لأجلها، كان سيدع كل شيء يدور حولها ويتمحور، هذا العنيد الحكيم الرزين الطيب، كان يهرب من الزواج حتى وجدها، ووجدته!


في تفاصيل كثيرة، في معركة أخيرة، تخلت هي بشكل أو بآخر، وكان هو على أعتاب وحدة موحشة، كانت تنسحب من المعركة التي كانت خسائر كل منهما فيها جوهرية، خسائر حقيقية موجعة، قد تخسر أطفالها للأبد، قد يخسر عائلته للأبد، قد تخسر حياتها وتعيش اضطهاد من أهلها إن علموا بتغييره لدينه، قد يخسر روحه لتغيير دينه في مجتمع قاس لا يعرف الرحمة، ولا يعترف بالحب ولا بالتغيير ولا بأن الجورب اليمين يجب أن يلبس في اليمين حتى لو قرر الناس جميعا أن يلبسوه في أيديهم اليسرى! مجتمع لا يعرف الصحيح حتى يصح، لكنه يسير بعوار كامل ويتنمر على الأصحاء كأنهم هم العوج والعور والعوز!


تمر الأيام، ويقابل فتاة أخرى، معادلة أسهل كثيرًا من التي قبلها، يفاجئني بأنه يفكر في الزواج بها!

يفاجئني أكثر بغزلياته لها!

تفاجني ضحكته في كل صورة تجمعهما!


شابة عنيدة، شقية، ضحكتها عريضة، ملامحها تبدو صغيرة ولطيفة وبريئة لشخصية قوية ومصرة ومتحدة!

أراه، أتذكر أحاديثنا المطولة، أتذكر جنوني وأفكاري، وتلك الكلمات المبعثرة والمتداخلة التي كان وحده يفهمها، من ذاق عرف، وإن المصائب يجمعن المصابينا، وإن ما أصابني في مقتل أصابه في قلبه!

هل محظوظ أن هناك من يملأ تلك الهوة؟

هل يندم بين حين وآخر أنه رحل!

قال لي: إنه استنفذ كل الحلول، وقدم كل العروض الممكنة والغير ممكنة!

يقول لي دوما: أنه حقا سعيد، ولم يكن يعرف أنه سيكون بمثل تلك السعادة، يقول سأقولها لك بلغتك يا عزيزتي: الله لطيف وله تدبير..

هل أصلح الوقت ما بقلبه الندي؟ اللكمة التي تلقاها فؤاده؟ الصدمة التي شربها عقله بمرارة الرضا؟ هل يصلح الوقت الأشياء حقا؟

بين كل ما كنت أشعر به

بين كل ما أراه حولي

بين ما أريد

وما كنت أتمنى

بيني هنا وأنا في الماضي

بين كل ما حدث ويحدث

أضيع كثيرا

أشعر بالفراغ، بالهوة، بالهاوية، بالخوف

لا أفتقد، ولا أشتاق، ولا أحلم، ولا أنام، ولا أقلق، ولا أرتاح!

شيء بلا شعور

لكني، كنت ومازلت، في كل وقت، أريد البكاء..

هل كان كل ما مر كابوس أو سراب؟

هل كل ما شعرت به ورأيت كان وهم؟ لعبة عقلية؟

كيف شكل الحلم؟ كيف يكون؟ ماذا أريد!

كثيرا ما أتمنى الموت، أقول لنفسي في لحظات الوعي انتبهي لأمنياتك، وفي أحلامي أفقد من أحب، كل يوم يموت شخص من جديد، استيقظت اليوم وأنا أحمل أمي ميتة بين يدين، وأنا أصرخ وأقول لها لا، متموتيش دلوقتي، متموتيش والنبي!

يقول لي أخي: ما شكل الحلم الذي تحلمين؟

لا أعرف

ما شكل وظيفتك؟

لا أعرف

ما شكل حبيبك؟

طويل؟ قصير؟ أبيض، أسمر، أشقر؟

لا أعرف

فكري

ليس عندي أفكار، أريد الخروج من هنا

إلى أين؟

إلى اللاشيء، لا أعرف أين، إلى مكان لا أحد فيه ولا أشعر فيه بالوحشة

هل تعرف؟ أريد أن أنام ... أريد النوم بشدة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق